لم تعمل زيارة السيد جمال بن عمر، مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة إلى اليمن على إيقاف نزيف الدّم الذي يَسيح في هذه البلاد العربية من أجساد المحتجّين والمدنيين منذ عشرة أشهر. فبالتَّزامن مع زيارته، شهدت مدينة تعِز مجزرة جديدة، فيما كان يواصل جهوده بين أطراف المعادلة السياسية من أجل نقل السلطة بمُقتضى المبادرة الخليجية وقرار مجلس الأمن 2004، الذي حثّ الأطراف على نقْلها بمُوجب تلك المبادرة.
فقد نُفِّذت المجزرة أثناء إجازة عيد الإضحى وأسفرت عن سقوط 15ضحية وعشرات الجرحى، بينهم نساء وأطفال وشيوخ، كانوا داخل منازلهم أو يُؤدّون الصلاة. وخلّفت المجزرة استِنكاراً واسعاً واستفزّت كل اليمنيين.
فإلى جانب أنها لم تحترم قُدْسية أيام عيد الأضحى للمسلمين ووُجِّهت ضدّ نِسوة مسالمات يؤدّين شعائِر صلاة الجمعة، وقتلت خمسٌ منهن بطريقة بشِعة، وتابع العالم هوْل الواقعة عبْر شاشات التلفزيون بمنظر إحداهن وهي تتلوّى كطائر ذبيح وأخرى تسقط هي وطفلها، كما شاهدوا قذائف أسلحة ثقيلة تخترِق جُدران المنازل وتحيل أجساداً إلى أشلاء متناثرة، حصل ذلك بعد أن ظلّت أحياء المدينة منذ مهاجمة ساحة الحرية في مايو 2011، عُرضة لقصف عشوائي يومي من قِبل قوات الأمن والجيش الموالي لصالح وتعيش حالة حرب.
تعِز "منبع الثورة"
وتباينت التفسيرات لمهاجمة المحتجّين والمدنيين في المدينة، في هذا التوقيت بالذّات وبالوحشية التي ظهرت عليها. فثمة مَن اعتبرها محاولة لصرْف اهتمام المبعوث الأممي عن الهدف الرئيسي من زيارته، وهو التوصّل إلى التوقيع على نقل السلطة وآلية تطبيق المرحلة الانتقالية، فيما يرى آخرون أن الغاية من تلك المجزرة، تحويل مسار الثورة السِّلمية، بتهييج المشاعر الجِهوية واستِفزازها، كي تنجرّ إلى ردّ فعلٍ انتِقامي بنفَس مناطقي وجِهوي، وبما يُسقِط عن الثورة البُعد الوطني وإسكاتها في أهَم معاقلها، في مدينة لا تتوقّف فيها الاحتجاجات والمظاهرات، على الرغم مما تعرّضت له من قمع .
فهذه المدينة كانت لها الرِيادة في حمْل لواء التغيير والتَّنوير منذ خمسينات القرن الماضي، إذ قادت نُخبها الأكثر تعليماً، الحركات السياسية الثورية والتنويرية، علاوة على أنها كانت السبّاقة إلى إشعال فتيل الثورة الشبابية بُعيْد سقوط نظاميْ زين العابدين ومبارك.
ويسري داخل الدوائر والأوساط السياسية والعسكرية والأمنية والقبلية والإعلامية، الموالية للنظام، اعتقاد بأن لم تكُن قناعات راسخة يجري تكريسها داخل تلك الأوساط، بأن تعِز هي منبع الثورة وأنه إذا ما جفّف ذلك المنبع، ستتراجع الاحتجاجات الشعبية في بقية مناطق البلاد، ولذلك، وطبقاً لهذا التوصيف الشائع في الأوساط الرسمية، تعرّضت في مايو الماضي ساحة الاعتصامات فيها إلى اقتحام بالأسلحة الثقيلة من قِبل قوات الأمن والجيش الموالية لصالح وأحْرقت خِيامها بمَن فيها، إلا أن الثوار استعادوا الساحة ووسّعوا نطاق احتجاجاتهم واعتصاماتهم السِّلمية، رغم القمع الذي وُجِّه للشباب الثائر منذ البداية، ورغم ضراوة الضربات المكثّفة التي تتعرّض لها الأحياء السكنية في المدينة منذ إحراق ساحة الحرية، وأكّد صمود المحتجين مدى الصعوبات التي تواجه النظام في تجفيف منبَع الثورة وإطفاء جذوة اشتعالها.الناشط حسين السهيلي، عضو لجنة الاتصال والتواصل بالمكوِّنات الثورية في ساحات الاعتصامات قال ل swissinfo.ch: "الضربات الوحشِية التي وُجِّهت لهذه المدينة، هي جزء من مخطّط يرمي إلى هدفيْن.
الأول، القضاء على الثورة من مدينة تعِز، كونها مصدَر للضَخّ الثوري في الساحات الأخرى، لأن سكانها ينتشِرون في جميع أنحاء البلاد ويحْلمون بدولة مواطنة مدنية. أما الهدف الثاني، فيرمي إلى استِدراج المدينة إلى مربّع العُنف والزجِّ بها في صِراع مسلّح من أجل "الشرعنة" لقمع الثوار وتبرير استِهداف المدنيين المُتواصل منذ شهر مايو الماضي، بُغية تحريف الثورة عن مسارِها السِّلمي، الذي رفعه صنّاعها منذ البداية كخِيار استراتيجي، لا تراجُع عنه حتى سقوط النظام".
ويرى الناشط الشبابي الدكتور عبد العزيز راجح، أن توصيف النظام للثورة بهذا الشكل، محاولة لنكران حقيقة أن المدّ الثوري ضدّه اليوم، هو مدٌّ وطني لم تجتمِع له كل ألوان الطَّيف الوطني من قبل، مثلما اجتمعت اليوم. فالاحتجاجات تعُم أكثر من 30 مدينة منتشِرة، شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، ووصلت إلى داخل التكتّل القبلي الذي استند إليه صالح طِوال فترة حكمه، ولذلك، فالتبسيط واختزال الثورة في جهة أو منطقة أو حزب أو جماعة، هو استمرار للأساليب والتكتيكات التي حكَم بها صالح اليمن لأزيد من ثلاثة عقود، وهي تقوم على اللعب على ضرب طرف سياسي بآخر وإقصاء قبيلة أو منطقة بأخرى، ليخلو له الملعب السياسي لوحده، لكن هذه الأساليب، حسب راجح، لم تعُد مُجدِية اليوم.
فالذين خرجوا للساحات وانخرطوا في الثورة وما زالوا صامدين منذ عشرة أشهر، عملوا ذلك ضدّاً على تلك الأساليب التي اتّبعها صالح من أجْل ديمومة حُكمه، وهم يتطلّعون للخلاص من دولة الغلَبة القبلية أو الجهوية أو الطائفية والدِّينية، التي ظلّت سِمَة تميّز التاريخ السياسي اليمني، قديماً وحديثاً.
الأولوية للإنتقال السلمي للسلطة
في السياق نفسه، يرى المراقبون أن تعِز، كما غيرها من المدن الأخرى، تتحمَّل وِزْر الرِّهان على التسوية السياسية على مستوييْن. الأول، المساومة على الثورة. والثاني، في التغاضي طبيعة الجرائم التي تمارَس ضدّ الشباب والسكان العُزّل. ويذهبون إلى أن الشارع اليمني يسبق السياسيين والناشطين الحقوقيين بأميال كثيرة، إذ أنه يتخطّاهم في مطالبته بمحاكمة منفِّذي جرائم القتل، فيما القِوى الأخرى، كالمعارضة وهيئات ومنظمات المجتمع المدني، وإن جاءت بياناتها وتقاريرها مشبِعة بكثير مما يصنّف تلك الأعمال في عدد جرائم الحرب وقتل المدنيين، إلا أن التحرك الإجرائي والعملي في هذا الشأن، ليس بالقوة ذاتها، بسبب تعويل كلّ الأطراف المعنية على نقل السلطة بمُوجب المبادرة الخليجية وتسابقهم على حجْز مواقعهم فيها.
وطِبقاً لأولئك المراقبين، فأحزاب المعارضة التقليدية المُنضَوِية في تكتّل "اللقاء المشترك"، أصبحت مواقفها منذ قَبُولها التّسوية بموجب تلك المبادرة، تدور حول مطلب التوقيع على المبادرة الخليجية من قِبل صالح، ولذلك، لم يُثيروا مسألة الملاحقة الجنائية لمُرتكبي تلك الأعمال ضدّ المحتجين، لأن أولَوِياتهم هي نقل السلطة وِفقاً لتلك المبادرة، أما المنظمات والهيئات الحقوقية المعنية بهذا الملف، فعلى الرّغم من أنها عمِلت على رصْد وتوثيق تلك الانتهاكات والجرائم واعتبرتها مستوجبة للملاحقة الجنائية، إلا أنها على ما يبدو، تتردّد هي الأخرى في الانتقال بها إلى أبعَد من الضغط على السلطات لدفْعها إلى التوقيع على نقل السلطات.
ومن الواضح أن كل الأطراف تعطي الأهمية في الوقت الحالي للانتقال السِّلمي للسلطة بمُقتضى المبادرة الخليجية، التي منحت الحصانة لصالح وأركان نظامه، ولذلك، فهُم حذِرون في الإشارة إلى الملاحقة الجنائية، خِشية أن تؤدّي إثارتها إلى إعاقة نقْل السلطة بتردّد صالح عن التوقيع أو تفويضه لنائبه، وِفق ما استقرّت عليه الجهود الأممية الأخيرة، ولا يميلون حتى الآن إلى التصعيد الحقوقي والجنائي، والذي يفسِّره عدم القيام بأي خطوات عملية وإجرائية لإثارة الموضوع أمام المحكمة الجنائية الدولية مباشرة عبْر رئيسها أو بطريقة غيْر مباشرة، عن طريق مجلس الأمن أو من قِبل الدول الأطراف، وِفقاً لنظام روما، الذي حصر تحريك الدّعوى بتلك الأطراف.
لكن الملاحظ، أن جميع الأطراف، بمن فيها الرُّعاة الإقليميين والدوليين، لم يصدر عنهم ما يُوحي بالسيْر في هذا الطريق، ربما لتوافقهم على ضرورة إفْساح المجال لحظوظ التسوية السياسية، وبما لا يؤدّي إلى ممانعة صالح ونظامه على نقْل السلطة، خِشية من تَبِعات الملاحقات التي قد تَطالُهم، في حالة ما إذا خرج الأمر عن إطار التسوية الإقليمية، كما تقترحها المبادرة الخليجية، وعدم تضييق الخِناق على النظام بتطويقه بمصير المحكمة الجنائية الدولية، ما قد تدفعه إلى التشبّث والرِّهان على الحسْم العسكري وجرّ البلاد إلى حرب أهلية لا طاقة لها بها، وهي في أسوء وضع اقتصادي.
لا مفاوضات ولا صفقات
المؤكّد، أنه في ظل تعثُّر جهود نقل السلطة كما تبدو من بُطء خطواتها حتى الآن، ستسيل المزيد من الدِّماء، خاصة ولِسان حالِ الثوار في الساحات وِفق ما عبّروا عنه ل swissinfo.ch أن "الثورات لا تدخل في مفاوضات.. ولا تهادُن أو تحاوُر.. ولا تنتهي إلى إبرام صفقات"، لاسيما بعد تزايُد سقوط الضحايا وقنْص النساء وإعلان الحرب على المدنيين كما يردون بغضب وإصرار على الوفاء لمَن يقولون إنهم سقطوا بجانبهم وأمام نواظرهم وأن دِماءهم لن تكون مجرّد ضريبة أو ثمن للتسوية السياسية، وهو ما يُشاطرهم فيه كل الذين خرجوا ويخرجون في بقية المدن تضامناً مع هذه المدينةاليمنية الحالِمة بالمواطنة والتغيير والعدالة.