عندما نراقب الوضع السياسي العربي نجده وضعاً متأزّماً , يعيش حالةً من التوتر والاضطراب الملحوظ خاصةً بعد قيام ثورات الربيع العربي التي فجّرت كثيراً من المشكلات والأزمات التي كانت تشتعل تحت الرماد , خاصةً تلك المتعلقة بالقضايا العالقة بين أطراف وطنية متعادية , بالطبع كانت هذه العداوات تعيش تحت السطح ولا يظهر منها سوى انعكاساتٍ لأوضاعٍ غير صحية تظهر في شتى المجالات من ضعف اقتصادي وتوقف لعجلة التنمية وغيرها من المشكلات. لم تشأ الحكومات السابقة حلّها حتى تُبقي جميع الخيوط في يدها , وتبقى مثل هذه العداوات ورقة ضغطٍ تستخدم عند الحاجة لبثِّ الاضطرابت والفتن , أو قد تشعر بها الحكومة وتهمل حلِّها وتقوم ببعض عمليات التجميل والترقيع السطحي التي لا تسمن ولا تغني من جوع بل قد تزيد الوضع تأزُّماً أو لتشغل الرأي العام بالقضايا الهامشية والسطحية قبل أن يكتشف عمق الأزمة وما هو المخبّأ تحتها. واليوم ظهرت جميع الخلافات الوطنية بين مختلف الفرقاء على مرأى ومسمع من الجميع في مختلف الدول العربية صاحبة الربيع , ورغم أن ما نسمع عنه ونشاهده يؤلم ذوي الضمائر الحية , ولكنه يظل أفضل من اللعب تحت الطاولة واشتعال الحرائق التي تأكل الأخضر واليابس دون أن نشعر , فالشعور بالشكلة جزء من حلها. قد يعترض البعض على حديثي هذا ويتحسّر على السنين البائدة التي كان مستغفلاً فيها , وكأن شيئاً لم يكن وان الوضع أفضل ما يكون , ولكن لابد من الشعور بمرارة الدواء لعلاج المرض , عندما نضع مشكلاتنا على الطاولة ونبدأ في تشريحها سنكتشف مكمن الدماء وسنتتبع الوريد الذي ينزف ثم نعالجه بالطريقة المناسبة لنحافظ على الجسد سليماً معافى. والمجتمعات والدول مثل الجسد تماماً تصيبها الأمراض والفيروسات , وقد يحدث خللٌ ما في أجهزتها أو عدم اتساق بين أطرافها أو تنافر بين أعضائها , فإذا لم تسارع من قبل أهل الحل والعقد فى العلاج أعياها المرض وماتت , وبينما يعيش الجسد البشري من خلال جهازٍ عصبي يتحكم في كافة الأجهزة والأعضاء وكذلك تعيش الدول عبر حكوماتٍ تنسِّق العمل بين أجهزة الدولة المختلفة. وحتى يحصل ذلك في المجتمعات والدول فيجب أن ينشأ بين أفرادها ما يسمى بالعقد الاجتماعي , فالدولة جهازٌ حيوي يضم عدة أجهزة وأعضاء حيوية تحكم علاقتها المصالح المتبادلة وهذا ما يجعلها تختلف عن الجسد الإنساني , فالأفراد والجماعات داخل الدولة أو المجتمع الواحد لكل منه واجبات وحقوق يجب أن تؤدى ومصالح وأهداف يسعى لتحقيقها,ولا يتأتى ذلك إلا من خلال عقد اجتماعي يقيم نوعاً من المصالحة الوطنية بين الأطراف المتصارعة فيقدمون بعض التنازلات عن بعض المصالح في ظروف معينة في سبيل الحفاظ على هذا الجسد الكبير وهو الدول , يقول قاموس الفلسفة في تعريفه للعقد الاجتماعي (هو اتفاق بين أفراد وقوة حاكمة حيث يتم التنازل إرادياً عن بعض الحريات الشخصية مقابل منفعة تتمثل في مجتمع حسن التنظيم أو حكومة رشيدة). واليوم جميع الدول العربية التي هبّت عليها رياح الربيع العربي تسعى لتكوين هذا العقد بين مختلف أفرادها وفئاتها , فالعقد الاجتماعي هو الخطوة الأولى للاتفاق على الدستور ولوضع القوانين وقد تكون الحوارات الوطنية هي بداية لتكوين العقد أو قد تكون أحد نتائجه للوصول إلى اتفاق يرضي جميع الأطراف , وهذا ما يجب أن يسعى إليه الفرقاء في جميع الدول العربية لوقف النزيف السوري والاضطراب المصري التوتر التونسي والليبي , واليوم ما يمارسه اليمنيون هو شكل من أشكال التعاقد الاجتماعي من خلال الحوار الوطني. فالعقد الاجتماعي بحث عن طريق جديدة يسلكه الجميع فيه كثيرٌ من الجهد والعناء لتحقيق المصالح المشتركة ,وهو صوت الشعب الباحث عن الحياة الكريمة والتي ينال من خلاله حقوقه ويؤدي واجباته , مالم يصل الجميع لهذا العقد فإن الدولة حتماً ستنهار تحت حرائق الحروب الأهلية. وهنا يحضرني مؤاخاة الرسول صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار كعقدٍ اجتماعي يجمع الكل على أرضٍ واحدة بعيداً عن المصالح الشخصية والفردية الضيقة في سبيل تحقيق وقيام دولة المدينة , ومن بعد هذا العقد وضع صلى الله عليه وسلم الدستور العام للدولة وهو وثيقة المدينة التي تحدد الحقوق والواجبات.