كنت قد تحدثت في المقال السابق عن الفردية والجماعية , وعن المعادلة الصعبة في محاولة التوفيق بينهما , ويمكننا أن نقول أن الانتصار على الذات وامتلاك زمامها هي الخطوة الأولى نحو الانتصار الحقيقي والذي سيصب حتماً في مصلحة الجماعة التي ينتمي إليها الفرد… فكيف انتصر على ذاتي؟ الانتصار على الذات يتطلب المرور بعدة مراحل للوصول إليه وبالتالي الشعور بامتلاك الذات وقيادتها لما فيه الخير للنفس والجماعة.. المرحلة الأولى- الوعي بالذات: وهي مرحلة تشبه مرحلة الولادة بالنسبة للنفس حيث يكون الشخص في طفولته غير قادر على الشعور بذاته , فهو محاطٌ برعاية ذويه مطبوعاً بعادات مجتمعه وأنماطه الفكرية , وما إن يبدأ الشخص في الشعور بالاستقلالية -وذلك غالباً ما يكون في مرحلة المراهقة- يتجه نحو تلمّس ذاته والبحث عنها بطرح أسئلةٍ محورية على نفسه: من أنا؟ لماذا أنا موجود؟ من هؤلاء الذين يحيطون بي؟ وماذا يعدّون بالنسبة لي؟ هل أنا مقبول لديهم؟…أسئلة كثيرة تضجّ في عقل الإنسان فإن وجد إجابةً شافية عليها انتقل إلى المرحلة التي تليها بكل أمان , وإن لم يجد ظل حبيساً لتلك الاستفهامات الكثيرة , وظل رهينة الحيرة والضياع ورهينة المجتمع الذي ينتمي إليه كونه غير قادر على كسر قيود ذاته.. فكيف سيتمكن من كسر قيود مجتمعه؟ المرحلة الثانية-اكتشاف الذات (معرفة الذات) : وهي المرحلة التي يجد فيها الإنسان ذاته حين يجد إجاباتٍ شافية عن أسئلته في المرحلة السابقة حيث يتعرف على نفسه , والإجابة عن هذه التساؤلات يحتاج إلى تكوينٍ فكري سليم يزيل الاشتباكات واللبس بين الأمور التي تبدو للنفس والعقل على أنها متناقضة وهي في جوهرها متكاملة , ومرحلة اكتشاف الذات تجعل الشخص يشعر بنوعٍ من الطمأنينة والسلام الداخلي الذي ينعكس على سلوكه وبالتالي على تعامله مع الآخرين داخل المجتمع ,كونه عرف دوره وموقعه في الحياة حيث ينطلق نحو عمارتها. المرحلة الثالثة-تقبّل الذات (الرضا عن الذات) : بعد التعرّف على الذات تبدأ مرحلة جديدة هي مرحلة تقبّل الذات والرضا عنها بكل ما تحويه من نقاط قوة وضعف , عارفاً بنقاط قوته وضعفه باحثاً عن المكان المناسب الذي سيتمكّن من خلاله من تحقيق ذاته وخدمة مجتمعه , يدرك أنه يمتلك نفساً بشرية تخطئ وتصيب وعلى ذلك فعليه ألّا يحملها فوق ما تطيق وألا يهينها أو يقلل من شأنها , وهذا بالتأكيد سنلمسه جلياً في تعامل الشخص الراضي عن ذاته مع الآخرين حيث يكون أكثر اتزاناً وأكثر قدرة على الاعتراف بأخطائه ومعالجتها بدلاً من إلقاء اللوم على الآخرين واتهامهم. المرحلة الرابعة-الثقة بالذات: هي مرحلة يصبح فيها الشخص أكثر قدرة على تحديد موقعه , حيث اتّضحت لديه صورة كاملة عن ذاته, وفي هذه المرحلة يعرف حقوقه ويطالب بها كما أنه يتحمل مسؤولياته كاملة ويؤدي ما عليه من واجبات على أكمل وجه , وهو يعرف كيف يكسب ثقة الآخرين أيضاً حين يتعامل معهم كما ينبغي فيعطي كل ذي حق حقه , ويتصرف بحرية مسؤولة دون اعتداء على حقوق الآخرين , كما أنه يزداد ثقة بنفسه كلما قدم خدمة لمجتمعه, فهو يدرك أن كل عمل نافع وصالح يقوم به يصبّ في مصلحته ومصلحة مجتمعه , وثقته بذاته تجعله أكثر جرأة على مواجهة مشكلاته ومشكلات الحياة والبحث لها عن حلول مناسبة. المرحلة الخامسة-تنمية الذات: وهي آخر مرحلة والتي يخطئ الكثيرون ويتجاوزن بقية المراحل نحوها مباشرة فبدلاً من تنمية ذواتهم فإنهم يزيدونها حيرةً وضياعاً, ولعلها الإشكالية الحقيقية لمعظم شباب اليوم الذين يفتقدون التكوين الفكري السليم وتجدهم يتراكضون خلف دورات تنمية الذات التي لا تغير فيهم سوى القليل . وهي مرحلة ضرورية ولكنها الأخيرة بعد تجاوز المراحل السابقة لأن تنمية الذات تحتاج إلى ذات واعية تدرك كنهها لتعرف في أي مجال ستنمو وكيف ستوظِّف هذه التنمية في صالحها وصالح الآخرين , وفي هذه المرحلة يحافظ الشخص على جوهره على ذاته وحقيقته على مبادئه وهويته يحافظ على فهمه لنفسه ولمن حوله وفي ذات الوقت يجدّد وينمي ويغيّر أفكاره ويقوي نقاط ضعفه بما يخدم هذه المبادئ وهذه الهوية ويحافظ عليها باكتساب مهارات جديدة في التواصل مع النفس ومع الآخر , وبالتالي يتمكن من التفاعل مع مجتمعه والتأثير فيه حتى يتمكّن من تغيير ذاته وتغيير مجتمعه نحو الأفضل , باختراق العادات السيئة في الذات وكسر القيود التي يفرضها عليها المجتمع بالأسلوب المناسب. فالانتصار الحقيقي أن تنتصر على ذاتك , وتتمكن من تحطيم تلك القيود الواهية التي فرضوها ثم فرضتها على نفسك.