قائد الاحتلال اليمني في سيئون.. قواتنا حررت حضرموت من الإرهاب    هزتان ارضيتان تضربان محافظة ذمار    تراجع في كميات الهطول المطري والارصاد يحذر من الصواعق الرعدية وتدني الرؤية الافقية    باحث يمني يحصل على برأه اختراع في الهند    الكوليرا تدق ناقوس الخطر في عدن ومحافظات مجاورة    "الأول من مايو" العيد المأساة..!    غزوة القردعي ل شبوة لأطماع توسعية    الجنوب هو الخاسر منذ تشكيل مجلس القيادة الرئاسي    وقفات احتجاجية في مارب وتعز وحضرموت تندد باستمرار العدوان الصهيوني على غزة    احتراق باص نقل جماعي بين حضرموت ومارب    حكومة تتسول الديزل... والبلد حبلى بالثروات!    البيع الآجل في بقالات عدن بالريال السعودي    عنجهية العليمي آن لها ان توقف    الإصلاحيين أستغلوه: بائع الأسكريم آذى سكان قرية اللصب وتم منعه ولم يمتثل (خريطة)    من يصلح فساد الملح!    مدرسة بن سميط بشبام تستقبل دفعات 84 و85 لثانوية سيئون (صور)    تربوي: بعد ثلاثة عقود من العمل أبلغوني بتصفير راتبي ان لم استكمل النقص في ملفي الوظيفي    البرلماني بشر: تسييس التعليم سبب في تدني مستواه والوزارة لا تملك الحق في وقف تعليم الانجليزية    السامعي يهني عمال اليمن بعيدهم السنوي ويشيد بثابتهم وتقديمهم نموذج فريد في التحدي    السياغي: ابني معتقل في قسم شرطة مذبح منذ 10 أيام بدون مسوغ قانوني    شركة النفط بصنعاء توضح بشأن نفاذ مخزون الوقود    نجاة قيادي في المقاومة الوطنية من محاولة اغتيال بتعز    التكتل الوطني يدعو المجتمع الدولي إلى موقف أكثر حزماً تجاه أعمال الإرهاب والقرصنة الحوثية    مليشيا الحوثي الإرهابية تمنع سفن وقود مرخصة من مغادرة ميناء رأس عيسى بالحديدة    "الحوثي يغتال الطفولة"..حملة الكترونية تفضح مراكز الموت وتدعو الآباء للحفاظ على أبنائهم    شاهد.. ردة فعل كريستيانو رونالدو عقب فشل النصر في التأهل لنهائي دوري أبطال آسيا    نتائج المقاتلين العرب في بطولة "ون" في شهر نيسان/أبريل    النصر يودع آسيا عبر بوابة كاواساكي الياباني    اختتام البطولة النسائية المفتوحة للآيكيدو بالسعودية    وفاة امرأة وجنينها بسبب انقطاع الكهرباء في عدن    هزة ارضية تضرب ريمة واخرى في خليج عدن    هل سيقدم ابناء تهامة كباش فداء..؟    سوريا ترد على ثمانية مطالب أميركية في رسالة أبريل    صدور ثلاثة كتب جديدة للكاتب اليمني حميد عقبي عن دار دان للنشر والتوزيع بالقاهرة    مباحثات سعودية روسية بشان اليمن والسفارة تعلن اصابة بحارة روس بغارة امريكية وتكشف وضعهم الصحي    فاضل وراجح يناقشان فعاليات أسبوع المرور العربي 2025    انخفاض أسعار الذهب إلى 3315.84 دولار للأوقية    عرض سعودي في الصورة.. أسباب انهيار صفقة تدريب أنشيلوتي لمنتخب البرازيل    جازم العريقي .. قدوة ومثال    غريم الشعب اليمني    العقيق اليماني ارث ثقافي يتحدى الزمن    إب.. مليشيا الحوثي تتلاعب بمخصصات مشروع ممول من الاتحاد الأوروبي    مليشيا الحوثي تواصل احتجاز سفن وبحارة في ميناء رأس عيسى والحكومة تدين    نهاية حقبته مع الريال.. تقارير تكشف عن اتفاق بين أنشيلوتي والاتحاد البرازيلي    الصحة العالمية:تسجيل27,517 إصابة و260 وفاة بالحصبة في اليمن خلال العام الماضي    اتحاد كرة القدم يعين النفيعي مدربا لمنتخب الشباب والسنيني للأولمبي    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    صنعاء .. حبس جراح واحالته للمحاكمة يثير ردود فعل واسعة في الوسطين الطبي والقانوني    النقابة تدين مقتل المخرج مصعب الحطامي وتجدد مطالبتها بالتحقيق في جرائم قتل الصحفيين    برشلونة يتوج بكأس ملك إسبانيا بعد فوز ماراثوني على ريال مدريد    أطباء بلا حدود تعلق خدماتها في مستشفى بعمران بعد تعرض طاقمها لتهديدات حوثية    غضب عارم بعد خروج الأهلي المصري من بطولة أفريقيا    القلة الصامدة و الكثرة الغثاء !    عصابات حوثية تمتهن المتاجرة بالآثار تعتدي على موقع أثري في إب    الأوقاف تحذر المنشآت المعتمدة في اليمن من عمليات التفويج غير المرخصة    ازدحام خانق في منفذ الوديعة وتعطيل السفر يومي 20 و21 أبريل    يا أئمة المساجد.. لا تبيعوا منابركم!    دور الشباب في صناعة التغيير وبناء المجتمعات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في ضيافة ( بن حمادة) وشعره 2
نشر في هنا حضرموت يوم 10 - 01 - 2015

لم تقرر الثلة الصغيرة التي ذهبت معها الذهاب إلى ريدة (عبد الودود ) بنفسها ، بل ذهبت استجابة لدعوة كريمة من شيخ ثعين ( بن حمادة ) ، ما إن وصلنا إلى الريدة واقتربنا من بيت الشيخ وجدنا أنفسنا محاطين بحفاوة ما بعدها حفاوة من الشيخ نفسه الذي تصدّر الترحيب مع أهله ومقربيه وأصدقائه وممثلين من أهل ثعين ، وعبر الجميع عن هذه الحفاوة ليس بالمصافحة حسب بل بتعابير وجُوههم كلمات الترحيب الحارة التي انطلقت من حناجرهم مصحوبة بابتسامات تحف بنا وتغمرنا كلما نظرنا إليهم .
إن الحفاوة التي حظينا بها كانت مؤشراً بالنسبة لي ليس على نقاوة أهل هذه البلدة الطيبة وتقديرهم للضيوف حسب ، بل حسهم العالي بمقام الرجال ومكانتهم ولذا رفعوا من سقف التقدير حين علموا أن المجموعة المستضافة نصفهم من كلية الآداب ( جامعة حضرموت ) والنصف الآخر من المعنين بالثقافة ويقدرون المشقاص وأهلها ، والبعض على تواصل ومقربة منهم ، بل من أهلها مثل ( بورح ) المطري وباسل باعباد وعبد الرب الحوثري . كان الاستقبال مدنياً لم تمارس فيه طرائق الاستقبال القبلية المتمثلة في إطلاق الأعيرة النارية المرافقة بالزامل المعتاد في الترحيب بالضيوف . حمدت الله على هذه الطريقة المتحضرة . وقلت لنفسي لقد تغير الناس وتغيرت المرابع ولم تعد المرابع كما كانت . بل تغيرت طريقة السكن التقليدية التي اعتاد عليها أهل الوديان واستبدلوها بمساكن من الخرسانة . وتبدلت طريقة الغذاء ونوعيته حتى الملابس لم تعد هي الملابس فلم أر من يلبس المئزر الأسود المصبوغ بالنيل ليتناغم مع لون الصحاري والوديان ، كما لم أسمع أصوات الجمال ورغائها ز بل سمعت أصوات ( ليلي علوي) وأخوتها وكل شئ يتغير ولم يبق الحال هو الحال ويصبح الماضي كما يقول ( دايفيد لوينثال بلداً أجنبيناً ) . نعم يصبح الماضي غريباً بعاداته وتقاليده وقيمه وثقافته في الملبس والغذاء . فبعد وجبة الغذاء قدم لنا ( الكيك ) على الطريقة الإفرنجية وهي عادة في الأكل لم يعرفها أسلاف الريدة وعرفها أخلافها ، فضلاً عن أنواع من الغذاء ليس من المناسب ذكرها هنا .
إن الماضي على غرابته في لحظة من الزمن لا يمكن إهماله وتجاوزه بل علينا أن نفهمه ونتبصره ، وأن اضطررنا تعلم لغته بأبعادها الثقافية والحضارية هكذا حدثتني نفسي حين مضت بي الذاكرة إلى الزمن الذي ولى ، وتأكد لي أننا لن نستطيع أن نصنع المستقبل إذا لم نفهم الماضي ونرفع كل عقبات الحاضر البائس اللئيم بغض النظر عن المقولة التي عدت الماضي بلداً أجنبياً لم نطل الوقوف خارج البيت . بل تتابعت خطوات المجموعة المستضافة إلى
الداخل واستقربنا المقام بالجلوس في ديوان عد لنا قبل أن نأتي ، لفت نظري بساطة المجلس وغياب مظاهر البذخ فيه ، بل ليس هناك من علامات تدل علية لا من قريب أو من بعيد. نظرت في ( بن حمادة فتحققت من سريان البساطة والتواضع ليس في المكان حسب ، بل وفي الإنسان ( بن حمادة ) الذي كن يلبس مئزراً أبيض وقميصاً أشد بياضاً ويلف على رأسه عمامة بيضاء لا تختلف في لونها عن القطع التي تعطي جسده ، وشوشت في أذن صديقي وقلت له إن شيخنا ليس مثل شيوخهم يراهم المرء يتمنطقون الجنابي ، ويحيط بهم الحراس المدججون بالسلاح الأبيض والسلاح الناري . إن ( بن حمادة ) لا يريد أن يمُيز نفسه عن الآخرين ، ولكنني أستدركت وقلت أنه يمتاز عن الآخرين بقوله للشعر وإذا كان هولاء الشيوخ مدججين بالسلاح فهو مدجج بالموهبة الشعرية وهي وحدها تفوق هذه المظاهر البليدة والعابرة . وهتفت في أعماقي يحيا الشعر ، حاولت أن أعتدل في جلستي وآخذ حريتي في الحركة فلم أستطع ، لقد ضاق بنا الديوان على سعته فأنتبه ( بن حمادة ) ونطق بطريقة عفوية وقال ( المتحابين يكفيهم شبر) إنها عبارة مكثفة لها دلالة إنسانية عميقة فالمكان لا يضيق بأهله إذا كانوا على ود وتراحم ومحبة ويضيق بهم المكان إذا انعدمت هذه الخصال الرائعة . وجدت الفرصة مناسبة ل أساله عن ديوانه وهل هو راضٍ عنه ؟ وما هو رأيه في تبويبه وعنوانات قصائده ، ومنحة حق الريادة في الشعر الشعبي ، أجابني : بأنهم هم الذي جمعوا وصنفوا وبووبوا ، وهم من أطلق عليّ هذا اللقب ولم أطلقة على نفسي ، وأرى أن هناك شعراء كِبار في المشقاص هم من يستحقون لقب الريادة ، أما عن عنونة القصائد فقد أكد لي ( بورح ) أنها من وضع ( بن حمادة ) نفسه . وحين واجهت ( بن حمادة ) بهذه الحقيقة لم يعلق ، سألته عن شعر الكراّم وهو الشعر الذي ظل محافظاً على تقاليد لغوية وشعرية تمتد في عمق الذاكرة الحضرمية ، تحدث لي بشئ من الاعتزاز بهذا اللون من الشعر وأكد بأنه ينتج بلغه عربيةً نقية لم تنل منها يد الزمن وظل هذا اللون بتقاليده الفنية نفسها إلى يوم الناس هذا ، ثم أضاف أن هذا الكراّم نوع من ( الحدا ) يمارس من الذين امتهنوا مهنة الجمالة ، فضلاً عن كونه كياناً شعرياً يلون فضاء الصحاري والوديان وارتبط في مستوياته بالتقلبات التي تحصل للفي أو الظل . فكل مستوى مرتبط بأشعة الشمس ومدى حضوره وغيابه اليومي في المكان ، ففي الصباح يتم التكريم بنوع معين من التكريم ، وفي الظهيرة بنوع آخر يقال له ( الهوجرة ) وحين تكون الشمس في كبد السماء ويتكون ذلك الظل الذي يسبق الزوال ويقال لهُ ( الغونة ) وله تكريم خاص ، أما لحظة غياب الشمس من السماء فيقال لها ( غودر ) وهذه اللحظة لها تكريمها وهكذا تتنوع أنواع شعر الكراّم بالتغيرات التي تحدث لأشعة الشمس في أثناء دورتها اليومية في المكان ، ثم استطرد بن حمادة في الحديث عن الشمس وقال عندما تكون محمرة في السماء يقال لها ( عولة ) هكذا فهمت من حديثه. ثم تدخل أحدهم وسأل عن مفردة في الديوان لا أدري ما هي بالضبط ولكنها مرتبطة بأصوات الجمال والأغنام فاضطر (بن حمادة ) للحديث عن هذه الأصوات . وطريقة الشرب عند هذه المواشي . مثل أول شربة يقال لها له ( نهول ) ، وإذا تكرب الشرب يقال لهُ ( علول ) . وشعر الكراّم لأنه أرتبط في بدايته بهذه الحياة البدوية استند في معجمه اللغوي إلى هذه المفردات وحولها إلى مفردات شعرية تحلق في فضاء الشعر .
إن هذا الحديث أدخلني في أجواء هذا العالم التلقائي وتذكرت ما قرأته عن شعر الكراّم فاستحضرت السيد جعفر السقاف وما قاله عن هذا الشعر في كتابه الموسوم ب ( لمحات من الأغاني والرقصات الشعبية في محافظة حضرموت ) ومن ضمن ما قاله : إن القارئ لو أتيح له سماع هذه الكلمات منغمة يتردد صداها بين شوامخ سلسلة جبال الوادي ، أو حتى على الشريط المسجل لطرب لها أيما طرب . وكأن جعفر هنا يؤكد أن قيمة هذا النوع من الشعر ليس في قراءته بل في سماعه مغنى فقيمته الجمالية ترتفع حين يتحقق شرط الغناء . واللافت أن السقاف لم يذكر أي علاقة بين هذا الشعر والفي وتمدادته وانحساراته وغيابه ، وباختصار كل ماله علاقة بتقلبات أشعة الشمس ،
وبدلاً عن الحديث عن هذه العلاقة اجتهد وصنف هذا الشعر في أربعة أنواع وهي :
* كراّم السوق 2- كراّم فراق الحبيب 3- كراّم العاشق 4- كراّم تخفيف الحزن عن النفس . ولعل الدافع الذي دفع السقاف إلى هذا التصنيف هو تحرر هذا الشعر من الارتباط بمهنة ( الجمّاله ) وانفصالهِ من هذه الضرورة المهنية وتجاوزها إلى عوالم فنية الغرض منها ليس حث الجمال على السير . بل التعبير عن الشجن وحرارة العواطف وتدفقها وتحويلها إلى كيان جمالي شعري الغرض من إبداعه التمتع به جمالياً وفنياً . لقد انفك شعر الكراّم عن لحظته التي ارتبطت بمهنة ( الجمّاله ) وأصبح يقال ويُغنى ويتمتع به كل أهل المشقاص . ولم يفتني وأنا أتذكر السقاف أن نذكر الباحث ( روبرت سارجنت ) ايضاً في كتابة ( نثر وشعر من حضرموت ) إذ تحدث أيضا عن هذا النوع من الشعر معتمداً على ( بن هاشم ) لذي عدّهُ من الأهازيج البدوية وهي أنغام عربية تتخلل الأغاني التي يغنونها ( للجمال ) حين يحدونها للسير ويسمونها ( غودره ) من الفعل يغودر ، ويؤدونها في بعض الأحيان بشئ من التطويل ( المط ) . وقد لاحظت أن بن هاشم قد استعصت عليه كلمات هذا الشعر ولم يعلق ( سارجنت ) على ما قاله بن هاشم ويرى أن ( لاندبرج ) قد درس ( الحدا ) ولا يخفي على القارئ أن صورة ( الحدا ) واضحة في كتب الأدب العربي ، و( سارجنت ) يرى أن هذه الظاهرة دُرست وليس هناك من ضرورة لدراستها مرة ثانية
أن مسألة استعصاء هذا الشعر على الذي يسمعه أول مرة مسألة بديهية لأن معجمه اللغوي له خصوصيته فضلاً عن ارتفاع درجة الاستعصاء ، عندما يُنشد أو يُغنى لأن الكلمات تصبح غير مفهومه . أن فهم هذا الشعر يحتاج إلى أذن مدربة على سماع هذا اللون من الشعر وعلى التصاق حميم بلغته وتقاليدها الصوتية والاشتقاقية والنحوية حتى يستطيع أن يرفع هذه الصعوبة ، ويمكن أن يلاحظ معي القارئ التصنيف الذي أدرج فيه هذا النوع من الشعر المُغنى وهو ( الغودر ) . وعلى اختزال هذا التصنيف في لحظة زمنية معينة إلا أنه أكد مسألة مهمة وهي ارتباط هذا الشعر ( بالفي أو الظل ) . ومفردة ( الغودر ) ليست غريبة على معجم اللهجة الحضرمية فأهل المكلا يقولون ( غدرة – وغدر الليل ) ويقصدون أن الظلام بدأ يحل في المكان ، وإذا كان هذا الشعر قد استغلق على ابن هاشم والسقاف ، فإن أهله الحذاق يفهمونه ويستدركون الأخطاء التي يقع فيها المُلقي لهذا الشعر ، ويستبعدون ببداهة أي زيادة أو نقصان تفسد هويته ليس هذا حسب ، بل أي خلل في الوزن ، ومن المؤكد أن بورح وغيره من عشاق هذا الشعر من الذين يعون هذا الشعر وضوابطه ، وكأن التدرب على سماعه مكنهم من تكوين حساسية خاصة استطاعوا بوساطتها أن يلاحقوا كل من يخل بهذا الشعر . وبمناسبة الحديث عن هذا الشعر فقد كان لي حوار مع الصديق عبد القادر باعيسى عن شعر الكراّم ، فقد صرح بأن أوزانه بسيطة وليست مركبة ويذكرهُ بالرجز الذي هو أقرب إلى النثر ، وطريقة الرجز من الطرائق القديمة التي يلجأ إليها الشعراء الجاهليون وعلى بساطة الشكل الوزني الذي يمتطيه الرجز إلا أن الشكل استطاع أن يتنفس بوساطته الشعراء ويسكبوا أشجانهم فيه ويحققون مستويات من التعامل الجمالي والفني قد لا تحققها الأشكال المعقدة في بعض الأحيان .
إن شعر ( الكراّم ) قيل من أجل أن يُغنى وبمناسبة الغناء فقد حظينا بسماع صوت المؤدي البارع سالم علي محمد باعباد وهو صاحب صوت عذب ممتلئ بالشجن فقدر كرّم ، ثم أدى لوناً آخر يقال له الشحيب انفعلت بأداء هذا الفنان إذ كنت أزاء طريقة في الأداء غاية في التنغيم ، ولم تكن الكلمات مستقلة من اللحن بل مند غمة وشكلت معه ماهية وحداة . وعلى الرغم أن الزمن الذي استغرقه الفنان سالم كان قصيراً إلا أنني انفعلت به وأحسست بتحولات وجدانية وجمالية لا أستطيع أن أشرحها باللغة بصورتها الكتابية ، وخيل لي أن هذا النغم لا يخرج من فم بشري بل من آلة ( المدروف ) بكل مستوياتها التعبيرية النغمية التي ترفع من درجة الشجن حين يسمعها المرء فيتسلطن وينسى أوجاعه اليومية . آلة المدروف آلة من ألآت النفخ الموجودة في حضرموت . إن سالم في لحظة من الزمان استطاع أن يلغي الوظيفة البيولوجية للفم ويحرره منها ، ويحوله إلى آلة موسيقية تؤدي وظيفة جمالية تصدح بالغناء وتصنع الجمال وتفجر في السامع أحاسيس لا يشعر بها إلا من سمعها مباشرة وتذوقها . وقلت بيني وبين نفسي إن الفم خُلق عند البشر ليؤدي وظائف جُلها مرتبطة بالحاجات اليومية لكن الفم عند الفنان من أمثال سالم خُلق للغناء . وقد أخبرني باسل باعباد أن هناك مؤدين لهذا اللون من الغناء لا يقلون تفوقاً عن سالم بل ربما يتفوقون عليه ويمتلكون قدرات باهرة في الأداء من هؤلاء محمد بن لحمان باعباد . فقد كان هذا المُغني يحظى بمكانة عالية في ( رغدون ) وقد اشتهر بالدان وهو على قرابة أُسرية من سالم ، ويعد سالم امتداداً أصيلاً لهذا الفنان الذي أشتهر في ربوع المشقاص ، فضلاً عن المكرم المشهود حسن عوض الشنيني لشهرته التي ذاعت في فضاء المشقاص لقب ( بالقنبلة ) وشهرته أتت ليس من حسن أدائه حسب ، بل من قدرته على أداء ألوان من الغناء المشقاصي لا يستطيع أن يؤديها الآخرون وفي أثناء الحديث عن هؤلاء المغنين أستدرك بن ( حمادة ) قضية مهمة وهي العلاقة التي لا تنفصم بين الشاعر والملحن في بعض الألوان من الغناء مثل الكراّم والشحيب ، فالشاعر ينقاد للغناء ولا ينطق إلا بما يتلاءم مع اللحن الذي ينطلق من حنجرته فالمغنى يحدد له كيفية الإطار المناسب لكلماته الشعرية . إن الدندنة ليست فارغة المعنى واعتباطية ، بل تمثل قالباً موسيقياً يسكب فيه الشاعر شعره بطريقة ارتجالية معتمداً فيها على سليقته التي تدربت على سماع هذا اللون امن الشعر أو ذاك وتتنفس تقاليده الفنية الأصيلة. وقد كان بن ( حمادة ) حكيماُ عندما تحدث عن السوارح وأشاد بدورها في تنظيم حياة الناس في ذلك الزمان ولم شملهم تحت لواء القبيلة ورص صفوف أفرادها من أجل مواجهة المخاطر المحدقة وقد كانوا في أشد الحاجة لهذه الوحدة ، واستطاعوا بهذه السوارح أن يتخطوا مشاكلهم ، ومثلت هذه السوارح نُظماً وأعرافاً وتقاليد توافق عليها أفراد القبيلة ، ونجحت في تحقيق تناغم بين الفرد وعشيرته دون أن يخسر طرف الآخر ، فالعشيرة يجب أن تأخذ حقها من الفرد ، والفرد يجب أن يأخذ حقه من العشيرة ، ولولا هذه السوارح ودورها لما استمر هذا المجتمع القبلي ولتفتت من أول لحظة تكون فيها إن هذه السوارح مثلت في حينها ضرورة اجتماعية حتى تمضي حياة الناس في السلم والحرب ، ولم يفت ابن ( حماده ) وهو يتحدث عن السوارح أن يذكر الأستاذ عبد الرحمن عبد الكريم الملاحي ويشيد بدوره في دراسة المجتمعات المحلية في المشقاص وبخاصة ( ثعين والحموم ) . وللأستاذ الملاحي كتاب مهم قدم فيه مادة ميدانية عن ( ثعين والحموم ) وقد وسم دراسته ب ( الدلالات الاجتماعية واللغوية والثقافية – لمهرجانات ختان صبيان قبائل المشقاص ( ثعين والحموم ) ومن ضمن ما ذكره عن السوارح التي تخص المرأة بأنها تلزم أفراد القبيلة بحمايتها وأحترمها وحُرُم ممارسة أي لون من الاضطهاد والأذى عليها ، وفرضت العقوبات الصارمة لكل من يسئ إليها بالشتم أو الضرب ، ولكل حالة اعتداء عقوبة خاصة ، ومن حق المرأة أن تختار شريك حياتها فلا يلزمها ولي أمرها بالارتباط لمن يختارها حتى ولو كان ابن عمها أو قريب النسب منها .وتعرف هذه السارحة . بسارحة الرفقة – أي إيقاف الزواج . وثمة عُرف يعطي للمرأة قطع علاقتها بزوجها عند حدوث سوء في العلاقة فلها حق الطلاق ، ويُطلق على هذا الحق بسارحة المشيني . إن الحقوق التي أعطيت للمرأة في هذه السوارح لا نجدها حتى في بعض دساتير البلدان العربية التي تدعي التحضر والتمدن . وبمناسبة الحديث عن السوارح فأن ( بن حمادة ) من الذين أمدوا الملاحي بالمعلومات عن السوارح وغيرها من التفاصيل التي ارتبطت بوديان وقرى المشقاص وقد ذكره الملاحي في كتابه الذي سبق وأن ذكرناه وسجل فيها زمن المقابلة ومكانها ريدة عبد الودود 94 – 1995م .
إن ابن حمادة على إلحاحي الشديد على توجيه الأسئلة إليه و محاولة استخراجي ما في دواخله عن حياته وشعره إلا أنه لم يضجر وظل على الدرجة نفسها من الحيوية والترحيب بنا وتركت له حرية الحديث عن حياته الشخصية فتواردت إليه الخواطر وتحدث عن تجربته في المهجر وذكر أنه سافر من دمخ حساي وهذه المنطقة عبارة عن لسان بحري لا يبعد كثيراً عن حساي البلدة وهي حاضرة من حواضر البحر وتمثل الحد الأخير الذي يفصل محافظة المهرة عن محافظة حضرموت بحسب التقسيم الإداري . كانت السفن الشراعية ( واللنشات ) تنطلق من هناك ودفع بن حمادة ثمناً مقابل سفره إلى الكويت ما يعادل 300 شلن أفريقي واستقر في الكويت مدة من الزمن ، أمتهن فيها تجارة الأقمشة ، وممارسة لهذه المهنة عمقت عنده فهم البشر وإجادة التعامل معهم على اختلافهم أجناسهم ومشاربهم . وفي المهجر لم تخمد موهبته الشعرية بل ظلت متقدة واستطاع أن يجاري الشعراء هناك وأن يكتب الشعر النبطي مثل ما يكتبون وحتى وهو يكتب هذا الشعر لم يتكئ على التنوين ليغطي الثغرات التي يقع فيها بعض الشعراء الذين يقولون الشعر النبطي ، بل أسعفته موهبته في تجاوز هذا القصور ولم ينسى وهو يتحدث عن دولة الكويت بكل تقدير واحترام أن يذكر معاملة أهلها الطيبة للحضارمة في ذالك الزمن الجميل إذ خصصت حكومتها المادة ( 19 ) من دستورها بفقرة تمنح الحضارمة حق كفالة أنفسهم بأنفسهم . ولكن هذا الحق أصبح اليوم من حديث الذكريات . فقد كان هذا الحق يحمل مضامين إنسانية عميقة ويحفظ للحضرمي كرامته .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.