رأيت فيما يرى النائم، أنني كنت ذاهباً إلى فُوّه ممتطياً دابّةً لم أتبين ماهيتها.. -لأنني كنت شبه نائم وأنا نائم-، وإذ بي أرى صفّاً طويلا –لكنه ليس طويلاً جداً- من السيارات ممتداً عبر إحدى الشوارع الجانبية التي تربط بين الخط الرئيسي وداخل منطقة الاربعين شقة، يقابله صفٌ آخر من الدراجات الناريّة، طبعاً المشهد طيّر النوم من عيني-في الحلم- ليس فقط لاكتشاف واحةَ نفطٍ تسقي جدب تانكياتنا ومواطيرنا القاحلة، وإنما أيضاً لأن هذا الموقع –خارج حدود الحلم- ليس به محطة بنزين! وأقرب محطة لهذه النقطة هي محطة الاصدقاء التي تأتي بعد الأربعين شقة، أحببت أن أوقف الدابّة لكن ذلك لم يحدث، الحقيقة أنه لم يتبين لي إن كنت أنا الذي أقود الدابّة، أم أني كنت جالساً في كرسي الراكب، المهم، بينما أنا على وشك تخطّي طابور الدراجات، لمحت أحد أقربائي، (وقد حدث قبل ليلة الحلم، أن طبّرت أنا وقريبي هذا في إحدى المحطات لأربع ساعات حتى إذا ما اقترب دورنا في التعبئة، ودخلت سطولي قائمة العشرة الأوائل في الطابور، قال لنا صاحب المحطّة :جيم أوفر). المهم، مندري كيه، وجدتُ الدابة قد توقفت إلى جوار سيكل قريبي، وإذ بي أتحدث إليه وأسأله: كيف المحطة ذي؟ تعبي جوالين ولا ممنوع؟ تقول بيعبي لنا ولا بيقول فاتكم القطار؟! فابتسم ابن خالتي ابتسامة الواثق… وأجاب إجابةً واحدةً مقتضبةً ردّت على كل تساؤلاتي: (بالعكس، هذي المحطة أحسن من الباقيات كُلّهنّ)، استبشرتُ خيراً، وأصبح همّي الآن هو كيف أعود للبيت حتى أُحضر الجوالين (حيث أن سيارتنا تُعاني من هبوطٍ حادٍّ في شوكة البترول يتعذر معه تحريكها من مرقدها.. تحت الدار)، ثم ألحق الطابور قبل أن يتمدد بالحرارة… حرارة الإحساس بالحماسة البالغة والنشاط المُفرط الذان يُصاب بهما كُلّ صاحب سيارة مركونة، أوصاحب ماطور خامد، عندما يشاهد (عُكنة) من البشر يتزاحمون أمام إحدى المحطات، و تتسلل عبر الزحام، رائحة البترول العطِرة…إلى نخاشيشه. تلفّتّ يمنةً ويسرةً باحثاً عن الدابّة لكنّي لم أجدها، صفّرتُ كأحسن حكم في الدوري الإنجليزي، بلا جدوى، اندفع الدم الساخن في عروقي وأنا استشيط غضباً من هذه الدابّة الغبية -أو سائقها الغبيّ- الذي سيضيّع علينا فرصةً ذهبيّة، صرخت بأعلى صوتي: يا ليد، وإذ بي أنتبه من نومي وأنا انتفض في سريري، وأتنفس بصوتٍ عالٍ، وجسمي يتصبب عرقاً بفعل انقطاع الكهرباء وتوقف المكيّف قبلها بفترة…، احتجت لبضع ثوانٍ أستعيد معها وعيي، أمسكت بجوالي لأعرف الوقت، فوجدت العشرات من رسائل الواتس أب الغير مقروئة، تصفحتها بعين نصف مفتوحة، لا شئ يسُرُّ، أخبارٌ عن معارك طاحنة، وسرقاتٌ كُبرى، وغزاةٌ بأعداد الجراد… تحرقهم نيران الحزمٍ من السماء، فيسلّطوا لهيب نيرانهم على من في الأرض! جرائم وحرائق، مآثرُ وبُطولات، وصورٌ كثيرة، لأحياء مدمّرة، وتفاصيل معاناة، وعشرات الأوجه لشباب في عمر الزهور لاقَوا عدوّاً غاشماً ببسالة، ليلقوا الله على إثرها، شهداء مرضيين بإذنه تعالى. رسائل متفائلة تحاول اقتناص بوادر الأمل وتستبشر بقدوم الخير كُله، نصرٍ قريبٍ و مرتباتٍ وبترول ومازوت و و.. والأهم… استعادة الناس لإحساس الأمان الذي افتقدوه منذ بداية الحرب, و رسائل أُخرى تسخر من سابقاتها، وتصبغ لوناً داكناً –كلون المازوت- على كل بادرة أمل أو مشروع بشارة! حاولت تناسي كلّ ذلك، واسترجاع الحلم بكل تفاصيله، ورددتُ بيني وبين نفسي: خير… اللهم اجعله خير. ومن ذلك اليوم، وأنا أُمارس عادة المشي في شوارع المكلا لفترات طويلة، لعلّي أحصل على فُسحة من السكينةِ التي هددتها نشرات الأخبار وأصوات الرصاص ورسائل الواتس، أو لعلّي أُصادف، يوماً ما، تلك الدابّة التي تأخذ الناس إلى حيث توجد المحطّات السرّية… التي تضخ البترول…بلا توقّف.