في حضن الطبيعة وسحر الريف وعفويته، كانت لنا سهراتنا (الخمسة نجوم)في المطعم المحاذي للطريق وإن شئت فقل المقهى هنا نسفح برضانا بعضا من دنانيرنا بعد أن تسفح دماء الأغنام تحت شجرة سدر غير بعيدة من النزلاء الذين يتمكنون من مشاهدة مراسيم الوليمة من الذبح إلى الشوي على الاحجار الساخنة، مرورا بتجهيز الرز، وتقطيع البصل وبقية التفاصيل الأخرى، ويفضل أغلب الزبائن أخذ حصتهم من الذبيحة طازجة أما نحن فلا يروق لنا اللعب مع النار، ونترك الأمر لصاحب المطعم أو لمن تطوع من تلاميذنا ،وهذا(البذخ) في الصرف غالبا ما يكون في ليلة الجمعة. لكن إغراءات حجر لاتقاوم لهذا عاد في السنة الثانية الطاقم التدريسي كاملا إذا لم تخن الذاكرة ، بيد أن الأمور لم تكن بسحرها القديم فقد أجبرنا على الدمج القسري بين العزبتين وهو قرار مفاجئ لم يراع شحنات التاريخ ولا سماحة الجغرافية وهكذا فبينما شهدنا عند نهاية عامنا الدراسي وحدة طوعية متسرعة بين جهوريتين في 22مايو 1990م ، دخلنا في عامنا الدراسي الجديد في وحدة قسرية غير مدروسة بين عزبتين . عامنا الدراسي الجديد هو أول عام كامل في عهد الجمهورية اليمنية لهذا يمكن تسميته بعام عسل الوحدة كانت الآمال كبيرة والأحلام بلا حدود وكانت أخبار التسويات واحتمالات الزيادة في الرواتب ترفع سقف التوقعات ولأن الوحدة الاندماجية دخلت بلا مقدمات كالقدر المحتوم فقد أفرزت اوضاعاً جديدة وتعقيدات غير محسوبة وأصاب منطقة حجر شيء مما أصاب الناس فهذه المنطقة مشهورة بغابات أشجار النخيل المؤممة بموجب الانتفاضات الفلاحية، في بداية العهد الوحدوي الجديدحاولت الدولة إيجاد تسويات عاجلة لإرجاع الحقوق الى أهلها، وحضر المسؤول الحزبي الى مديرية حجر (المجيدي) لبحث السبل المناسبة للتسوية بين الملاك القدامى (الأصليين) والملاك الحاليين بموجب القوانين الثورية ، واجتمع البدو والمشايخ، وفي مكان قريب اجتمع الفلاحون. كانت المواجهة في جوهرها بين حقبتين زمنيتين تداخلت في الزمان الخطأ والمكان الخطأ. تابعت المشهد من سطح مسكننا إلى أن ارتجت(مدينة) الجول بالزامل الذي يقول: "وحيا وسهلا وحيا بالمجيدي وعادك يا الصبي بتقول شيخي وسيدي"يفصح الزامل عن بداية صفحة جديدة في تاريخ حضرموت ونهاية صفحة ويحمل دلالات الصراع الطبقي الذي سعى النظام السابق في القضاء عليه بالقوة (وعنف بالعنف لولى العنف الاقطاعي مامات) إن ترحيل المشاكل وإنكارها، وأحيانا التعامي عنها، سنة عربية بامتياز لاتزال تقذف بهم في مهاوٍ عميقة. وهكذا شغلت الوحدة الناس في حجر كبقية المناطق مدة من الزمن كل بحسب مركزه ومكانه في المجتمع فبينما ترك البعض لأحلامه العنان، بحث البعض فيها عن أرضه القديمة أو بيته المؤمم أو ثأره المكبوت، وهناك من أراد أن تعود السنين إلى ماقبل 23سنة ولاشك أن السنين تحركت لكن في مجارٍغامضة غير المجاري المأمولة. عزبتنا الكبيرة كغيرها من العزب تمثل تجمعاً انسانياً متنوع الاهتمامات والرؤى، وقد أجبرتهم طبيعة المهنة في العيش في مكان واحد وغالبا ماتكون تبايناتهم تحت السيطرة ولا تتعدى أسوار السكن، وبالقدر الذي لا يترك جروحاً.وما نود الإشارة إليه هنا أننا فقدنا نحن أصحاب العزبة الصغيرة شعورنا السابق بالدفء، في عزبتنا الكبيرة لكي تنفذ المهام على ما يرام لابد من نظام صارم وترتيب مسبق وصارت الأيام أكثرطولا مما ألفناها لهذا كانت تلك السنة مع أساب أخرىآخر عهدنا بمدرستنا. وهكذا لم يبق لعزبتنا الكبيرة من حجر إلا ذكرى حسنة محسوبة من أعمارنا، وتجربة لنا فيها وعلينا، ولقمة حلال مشتركة ذابت في أحشائنا، ومكان للعبادة عمدته جباهنا، وقلوب لاتذكر أهلها إلا بما يسرهم.