تركيا تعلن مقتل 20 من جنودها بتحطم طائرة شحن عسكرية في جورجيا    المنتصر يدعوا لإعادة ترتيب بيت الإعلام الرياضي بعدن قبل موعد الانتخابات المرتقبة    تألق عدني في جدة.. لاعبو نادي التنس العدني يواصلون النجاح في البطولة الآسيوية    دربحة وفواز إلى النهائي الكبير بعد منافسات حماسية في كأس دوري الملوك – الشرق الأوسط    جنود في أبين يقطعون الطريق الدولي احتجاجًا على انقطاع المرتبات"    إيفانكا ترامب في أحضان الجولاني    الإخوان والقاعدة يهاجمان الإمارات لأنها تمثل نموذج الدولة الحديثة والعقلانية    عالميا..ارتفاع أسعار الذهب مدعوما بتراجع الدولار    حضرموت.. تُسرق في وضح النهار باسم "اليمن"!    خبير في الطقس: برد شتاء هذا العام لن يكون كله صقيع.. وأمطار متوقعة على نطاق محدود من البلاد    زيارة ومناورة ومبادرة مؤامرات سعودية جديدة على اليمن    عين الوطن الساهرة (2)..الوعي.. الشريك الصامت في خندق الأمن    القائم بأعمال رئيس هيئة مكافحة الفساد يكرم والد الشهيد ذي يزن يحيى علي الراعي    احتجاج على تهميش الثقافة: كيف تُقوِّض "أيديولوجيا النجاة العاجلة" بناء المجتمعات المرنة في الوطن العربي    بيان تحذيري من الداخلية    إيران تفكك شبكة تجسس مرتبطة بالولايات المتحدة وإسرائيل    اليوم انطلاق بطولة الشركات تحت شعار "شهداء على طريق القدس"    وزير الإعلام الإرياني متهم بتهريب مخطوطات عبرية نادرة    30 نوفمبر...ثمن لا ينتهي!    حلّ القضية الجنوبية يسهل حلّ المشكلة اليمنية يا عرب    أبين.. الأمن يتهاوى بين فوهات البنادق وصراع الجبايات وصمت السلطات    عسل شبوة يغزو معارض الصين التجارية في شنغهاي    تمرد إخواني في مأرب يضع مجلس القيادة أمام امتحان مصيري    الواقع الثقافي اليمني في ظل حالة "اللاسلم واللاحرب"    تغاريد حرة .. انكشاف يكبر واحتقان يتوسع قبل ان يتحول إلى غضب    كلمة الحق هي المغامرة الأكثر خطورة    "فيديو" جسم مجهول قبالة سواحل اليمن يتحدى صاروخ أمريكي ويحدث صدمة في الكونغرس    قاضٍ يوجه رسالة مفتوحة للحوثي مطالباً بالإفراج عن المخفيين قسرياً في صنعاء    قرار جديد في تعز لضبط رسوم المدارس الأهلية وإعفاء أبناء الشهداء والجرحى من الدفع    مشاريع نوعية تنهض بشبكة الطرق في أمانة العاصمة    ارشادات صحية حول اسباب جلطات الشتاء؟    انتقالي الطلح يقدم كمية من الكتب المدرسية لإدارة مكتب التربية والتعليم بالمديرية    قراءة تحليلية لنص "خطوبة وخيبة" ل"أحمد سيف حاشد"    النفط يتجاوز 65 دولارا للبرميل للمرة الأولى منذ 3 نوفمبر    مواطنون يعثرون على جثة مواطن قتيلا في إب بظروف غامضة    اليونيسيف: إسرائيل تمنع وصول اللقاحات وحليب الأطفال الى غزة    لملس يبحث مع وفد حكومي هولندي سبل تطوير مؤسسة مياه عدن    الحديدة أولا    الاتصالات تنفي شائعات مصادرة أرصدة المشتركين    حكاية وادي زبيد (2): الأربعين المَطّارة ونظام "المِدَد" الأعرق    قيمة الجواسيس والعملاء وعقوبتهم في قوانين الأرض والسماء    ريال مدريد يقرر بيع فينيسيوس جونيور    نائب وزير الشباب والرياضة يطلع على الترتيبات النهائية لانطلاق بطولة 30 نوفمبر للاتحاد العام لالتقاط الاوتاد على كأس الشهيد الغماري    عدن في قلب وذكريات الملكة إليزابيث الثانية: زيارة خلدتها الذاكرة البريطانية والعربية    البروفيسور الترب يحضر مناقشة رسالة الماجستير للدارس مصطفى محمود    5 عناصر تعزّز المناعة في الشتاء!    قراءة تحليلية لنص "خصي العقول" ل"أحمد سيف حاشد"    عالم أزهري يحذر: الطلاق ب"الفرانكو" غير معترف به شرعا    الدوري الاسباني: برشلونة يعود من ملعب سلتا فيغو بانتصار كبير ويقلص الفارق مع ريال مدريد    الدوري الايطالي: الانتر يضرب لاتسيو في ميلانو ويتصدر الترتيب برفقة روما    الشهادة .. بين التقديس الإنساني والمفهوم القرآني    ثقافة الاستعلاء .. مهوى السقوط..!!    الزعوري: العلاقات اليمنية السعودية تتجاوز حدود الجغرافيا والدين واللغة لتصل إلى درجة النسيج الاجتماعي الواحد    كم خطوة تحتاج يوميا لتؤخر شيخوخة دماغك؟    مأرب.. تسجيل 61 حالة وفاة وإصابة بمرض الدفتيريا منذ بداية العام    كما تدين تدان .. في الخير قبل الشر    الزكاة تدشن تحصيل وصرف زكاة الحبوب في جبل المحويت    "جنوب يتناحر.. بعد أن كان جسداً واحداً"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



(في رحاب جول الريدة)

ما أن تضع امتحانات الثانوية العامة أوزارها حتى تجد الطلاب المتخرجين على استعداد ، لتأدية الخدمة العسكرية الإجبارية لمدة سنتين قابلة للزيادة بحسب الظروف.في صيف عام 1981انطلقت دفعتنا من طلاب ثانوية المكلا نحو معسكر التجمع في منطقة العند العنيدة بالمحافظة الثانية (لحج)، وصاروا ضمن السجلات العسكرية أرقاما متسلسلة تحمل رقم دفعة واحدة هي (الحادية عشرة)،وقد اضطررت لظروف عائلية على تأجيل خدمتي العسكرية لمدة عام حسب القانون.
بينما كان الزملاء والأصدقاء يركبون المجهول وعلى وشك الدخول في تجربة مغايرة وشاقة كما تتواتر الأخبار، كان التساؤل الذي لم أحسب حسابه أو لم استعد له هو: ماذا سأعمل في هذه السنة؟ لاسيما أن الدراسة الجامعية لا تفتح أبوابها وقتئذ إلا (بسبور)الخدمة العسكرية المتضمن الإشارة السحرية بأن حامله أكمل المدة على ما يرام.وبينما كنت وأهلي في حيرة من أمرنا سمعنا إعلانا في إذاعة المكلا عن حاجة مكتب التربية والتعليم في المحافظة الرابعة( شبوة) إلى مدرسين من حملة الثانوية وما فوقها وشجعني على قبول العرض أخي أحمد الذي يعمل معلما في هذه المحافظة.من هذه الإطلالة السريعة بدأت قصتي مع مهنة التدريس.
في مكتب التربية بالمكلا وقعت على استمارة عقد العمل وحرصت على أن تكون مدة العقد عاما لأرى بعدها ما تخفيه الأيام.مع بداية العام الدراسي الجديد(1981- 1982م)غادرنا مدينة المكلا كنت المعلم الجديد والأصغر سنا ضمن مجموعة من المعلمين المتوجهين إلى مدارسهم،وبينما كانت حكايات الزملاء المتضمنة طرائفهم وذكرياتهم للعام المنصرم تخلق حالة من البهجة تخفف عناء الرحلة الطويلة، كانت تتنازعني بعض الهواجس والتوجسات.فالأقدار وبدون مقدمات وضعتني أمام تحول نوعي في حياتي فقد نقلتني من مقعد الصف الدراسي إلى صدارته. ورغم صخب الأصوات وطنينها، كان هناك مجال رحب سبحت فيه مع تأملاتي الحائرة، وغصت في تساؤلاتي الصامتة الدفينة في حين استمرت حكايات الزملاء تعاند الطريق في تحد مطعم بالصبر والخبرة، وانشغلت إطارات السيارة بالتهام الطريق بهمة لا تعرف الكلل حتى وصلت إلى هدفها المرسوم في مدينة (ميفع) عاصمة المديرية الجنوبية.
جاءت نقلتي إلى مدرسة جول الريدة على غير رغبتي.تقع المدرسة على الهضبة المحاذية لمدينة ميفع وقد تم بناء المدرسة في هذا الجول لتكون قريبة من عدد من التجمعات السكانية وهي منطقة شبه خالية من السكان باستثناء وحدات سكنية غير بعيدة تم إنشاؤها من قبل الدولة، ويخترق هذا الجول طريق المكلا عدن. وعلى الحافة المطلة على مدينة ميفع وبمحاذاة الطريق تجد عددا محدودا من المطاعم والبقالات تلبي حاجات عابري الطريق.
آثر أهالي مدينة ميفع الصغيرة البقاء في أماكنهم بعيدا بعض الشئ عن الطريق الإسفلتي الحيوي ثم ما لبثوا أن أدركوا الأهمية الاقتصادية لهذا الجول بفعل اختراق الطريق الرئيس له. في متصف تسعينيات القرن الماضي تغير الأمر كثيرا فلم يحتفظ الجول إلا باسمه بعد أن تغشته البيوت وصادرت براءته، وعبثت بعذريته، ونالت من عفويته.
في مبنى مدرسة قديمة مبنية بالمواد المحلية التقليدية وبجوار المدرسة الجديدة كان سكن مجموعة المدرسين القادمين من حضرموت باستثناء زميل من بلدة الروضة كان يزاملني غرفة السكن.يصل طاقم التدريس المنقولين من محافظتنا الخامسة(حضرموت)إلى أكثر من 80% من الطاقم التدريسي ولعل هذه النسبة أو قريبة هي السائدة في المدارس الأخرى.
يتم توزيع الحصص بالنسبة للصفوف العليا السابع والثامن والتاسع غالبا وفقا للتخصص أو بحسب الخبرة في تدريس مادة معينة. أما الصفوف الصغرى فمتروك فيها الحبل على الغارب فكنت مدرسا للغة العربية للصفين الخامس والسادس ومدرسا لمادة التاريخ، والتربية الرياضية.كان ضمن طاقم التدريس زملاء من حملة دبلوم كلية التربية العليا بالمكلا وكان ذلك أرفع مؤهل علمي في المحافظة. لا أتذكر كثيرا من أسماء الزملاء وإن كنت أعرف البعض منهم تمام المعرفة، في سنوات لاحقة نبهني الزميل المعلم(متقاعد) خميس عيضة بافرج إلى عادة مفيدة كان يقوم بها مع نهاية كل عام دراسي وهي كتابة أسماء الطاقم التدريسي للسنة الدراسية في المدرسة التي يدرس فيها. لعل ذكري لهذه المعلومة العرضية نابع من فشلي في ذكر كل أسماء الذين جمعتنا معهم صحبة طيبة،وليال جميلة، وعيش وملح، ومعاناة.وفعلا: العلم في الكراس لا في الرأس.
يبدأ اليوم الدراسي كما هو معمول به في أغلب المدارس في الجمهورية بالنشيد والقسم الوطني وربما الفارق في مدرستنا التغيرات الفجائية الكبيرة الناجمة عن تدفق التلاميذ قي سيارات الشحن من المناطق القريبة في وقت واحد،مذكرين بيوم البعث العظيم بعد الصمت الطويل. فأغلب الطلاب منقولون من القرى المجاورة ولهذا ما إن يعود التلاميذ إلى منازلهم حتى يعود الصمت أدراجه إلى المكان. ولا يدل على استمرار الحياة وتدفقها إلا أصوات السيارات العابرة السريعة التي نستطيع مشاهدتها من نوافذ مسكننا.
ساعد هذا الوضع شبه الخالي من السكان إلى مزيد من التعايش في ما بيننا. والحقيقة وفرت إدارة التربية بالمديرية بعض عناصر التسلية لقتل أوقات الفراغ منها طاولة لعبة التنس و(كيرم ) وهو كرم يستحقه فائض الفراغ الملازم للمكان..كانت عصريات الأيام تمضي بين التحضير لليوم الدراسي القادم أو تصحيح الكراسات أو غسل الملابس أو الثرثرة داخل مبنى السكن وغالبا ما تكون نزهة المجموعة بعد صلاة المغرب في المقهى والمطعم الذي يملكه حضرميان قدما من السواحل الأفريقية الشرقية، والخدمة الكبيرة التي قدمها صاحبا هذا المطعم لعزبة المدرسين هي توفير السمك اليومي اللازم لوجبة الغذاء. لا تخلو المقهى أو المطعم من تجدد وجوه الزائرين الذين يحمل كل منهم سره الخاص ويرحل.والحقيقة الثابتة في تلك الليالي هو الاحتلال اليومي لمجموعة المعلمين لعدد من كراسي المقهى لشرب الشاهي ولعب الدمنة فقط أما وجبة العشاء فقانون العزبة الصارم حدد مكان تناولها وزمانها، مع احترام الحرية الشخصية لمن أراد التهور خارج ذلك النظام (والحصاة من الأرض، والدم من رأسك)
لا أستطيع تحديد عدد أفراد العزبة لكنهم لا يقلون عن عشرة ولا يزيدون عن أربعة عشر يدفع كل منهم مبلغا متفقا عليه من المال لتوفير مستلزمات الوجبات الثلاث، ولخبرات أكثر أفراد المجموعة في إدارة العزب كان من السهل ترتيب (الطباخين ) للوجبات الثلاث ببرنامج ملزم للجميع ولأنني وزميلي في الغرفة من المستجدين في الخدمة كنا لا علم لنا بفن الطبخ إلا اللمم ، لهذا قدّر وضعنا مؤقتا، وصرنا من ضمن الطاقم المساعد للطباخ الرئيس وفي مثل هذه الأجواء سمعت المقولة الشهيرة للمعلمين وهي أن: (كل معلم طباخ، وليس كل طباخ معلم) ربما هذا الجيل أقل معاناة من أجيال المعلمين الرواد السابقين الذين كانوا يتنقلون بين القرى سيرا على الأقدام وفي ظروف ينقطعون فيها عن ذويهم والعالم الخارجي .
تجهز وجبة الفطور من الصباح الباكر بعجن الدقيق وتعطيفه وتجهيزه إلى مرحلة ما قبل (عذاب) التاوة ويكتفي المعلمون بأكواب من الشاهي ،وقبيل الفسحة الأولى تجري عملية سحل أقراص البراوطة الرطبة بلا رحمة على التاوات وخلال ربع ساعة يكون الفطور جاهزا،وساخنا. ثم يتفرغ أصحاب الصحون بغسل الأواني وتجهيز المطبخ لكتيبة وجبة الغذاء فيتقدم منهم من أكمل برنامجه اليومي وغالبا ما تفرق حصة واحدة في أحسن الأحوال فبرامج جميع المعلمين لا تقل عن أربع حصص في اليوم . أما وجبة العشاء فهي في وقتها ويسهل السيطرة عليها فأصحاب الليلة يجدون لهم في الليل سبحا طويلا، وتتكون الوجبات عادة من ثنائية البراوطة والرز.
ولكن دوام الحال من المحال فلا تخلو الأمور من انتقادات ومنغصات هنا وهناك فالعزبة فيها أنداد من حيث الخبرة والسن وهذا عادة ما يخلق حالة من التحسس عند من وجد في طرف الرغبة في البروز أو الاستحواذ بالرأي ولكن المصلحة في التوحد في تلك الظروف تنتصر على النوازع الذاتية حتى ظهرت القشة التي قصمت ظهر البعير فقد زارنا ضيف عابر معروف عند بعض أفراد العزبة وطبيعي في مكان يكاد يخلو من السكان أن يسعد الجميع بأي ضيف فهو يكسر رتابة الحياة اليومية ومللها، وفعلا أخذ الضيف من الوقت أضعاف ما حدده العرب للضيف،ويبدو أنه استحسن المكان، وشغف به دون أن يعطيه ما يستحقه من التزامات. وبعيدا عن التفاصيل غير الضرورية فقد أحدث هذا الأمر شقا في صفوف العزبة وتحولت إلى ثلاث عزب سيطر على كل عزبة رأس من الرؤوس (الكبيرة).ولكن ظلت العلاقات البينية على ما يرام طالما احترمت الخصوصيات ووجهات النظر.كان هناك توجسات عند البعض بأن الضيف ربما يكون مدسوسا لمراقبة تلك الثلة من المتعلمين البعيدين عن أعين الناس، وعلى فرضية صحة هذا القول فإنني متأكد أن المعلومات لن تكون ذات جدوى للجهات الأمنية التي أرسلته وربما فائدتها(إن وجدت) ستكون لهذه الأوراق التي نحاول بعد مضي ثلاثين عاما نبش تفاصيلها من ذاكرة الأيام .
رغم أن مدارس المديرية متباعدة عن بعضها البعض فإن شبكة الاتصال بين الزملاء بالوسائل المتاحة هي التي تعزز العلاقات وكانت عزبتنا أحوج ما تكون للناس لهذا تكون نهاية كل أسبوع على موعد في زيارات متبادلة يرتب لها مع العزب في القرى المجاورة وغالبا ما يضفي التجمع بعد الغياب حالة استثنائية من الفرح والتآلف، ولابد أن نذكر هنا أن العلاقات بين سكان القرى والمعلمين كانت على درجة مقبولة من الوئام والاحترام، عندما زرنا بلدة (الروضة) القريبة من قرية (غرير) بعد صعود عقبة خطيرة وجدنا الكرم العربي الأصيل في أحسن صوره فبعد أن قضيت صلاة الجمعة لاحظت الزملاء يتجهون إلى بيت غير سكنهم ثم اتضح لي أن المعلمين في أغلب الجمع في ضيافة في اتفاق ترابطت عراه بين أبناء البلدة . إنه تقليد يحمل دلالات رائعة.
لا أريد أن استعرض نماذج أخرى من الكرم العربي الذي ربما أصابته الآن شائبة من شوائب هذا العصر وتعقيداته، تزداد درجات الكرم بحسب مواطن الاستيطان الحضري فكلما كانت المنطقة أقرب إلى المدينة منها إلى القرية كلما تراجعت نسبة الكرم والقبول الأهلي والعكس في حالة القرية وتظل المدن والقرى في كل مكان مذاهب وأجناس.لابد هنا من الإشارة إلى أنه في تلك الأيام لم تصل خدمة التلفونات ولا الإرسال التلفزيوني إلى تلك المناطق وكان الناس أشد قربا من بعضهم البعض مقارنة بهذه الأيام وأكثر تسامحا في لقاء الضيوف والأغراب ودائما لعجلة التطور والحداثة إيجابياتها وفواتيرها التي تمس العادات والتقاليد والقيم السائدة.
وعودة إلى المدرسة لاحظت سلوك التلاميذ عموما مقبولا، ويتعزز هذا السلوك أو يتراخى بحسب شخصية المعلم،أما المستوى الدراسي فهو أميل إلى الهبوط، وربما يرتبط ذلك بضعف التعليم في المراحل الدنيا أو الأساسية ومع هذا لا يخلو أي صف من بروز بضعة طلاب يجعلون للحصة الدراسية معاني حقيقية. في هذا التجربة العملية أدركت مدى صعوبة مهنة التدريس وفي قرارة نفسي (اعتبرتها) كما يقول المثل الحضرمي: (قبصة حشيمة) لهذا عند اختياري للكليات الجامعية بعد أن أديت الخدمة العسكرية الإجبارية حددت رغبتي في الكليات التي لا ترتبط بالتربية والتعليم من قريب أو من بعيد، ولكن سارت الرياح بما لا تشتهي السفن.إن مهنة التدريس وبغض النظر عن الانطباع القديم المحكوم باعتبارات متعددة ، لها متعتها وسحرها الخاص، ولعل ذلك ينطبق على أي مهنة إذا أخلص لها المرء، وأعطاها حقها، وأيقن صاحبها أن لكل مهنة نصيبها من الأتعاب والمصاعب،وأدرك أن التعامل مع مشكلاتها يجب أن يتم بالنظر إليها بوصفها مكونا طبيعيا في منظومة العمل والوظيفة .
من داخل قاعات الصف سأذكر هنا طرفتين:الأولى في حصة القواعد كان الدرس المكتوب على السبورة الفعل الماضي وإشارة بحصة القواعد. حاولت أن اشرح الزمن عمليا بأن طلبت من(الطالب سالم) الخروج من الصف ثم العودة كي أبيّن أن فعل الخروج صار من الزمن الماضي وبعد محاولات أخرى لتبسيط الدرس، ثم تقييم مدى استيعاب التلاميذ طلبت منهم تلخيص الدرس على الكراسات، كان السؤال الملح من قبل الطلاب هو: ما هو كراس المادة الذي تريد أن نكتب عليه الدرس؟
في حصة التربية الرياضية وهي الحصة المحببة للتلاميذ يتم صرف التلاميذ إلى ساحة مفتوحة قريبة من المدرسة ثم ينقسمون إلى فريقين ويلعبون كرة القدم،
وعندهم أن مؤشرات المهارة تقاس بمدى قدرة الطالب على ركل الكرة بقوة أو مدى ارتفاعها، ومما يثير استغرابي قدرة التلاميذ على الجري والمراوغة وهم حفاة في ساحة صلبة وغير مستوية دون إصابات .حدث مرة أن خلت المدرسة من الكرات فصارت حصة التربية الرياضية في الصف، ويتحول المدرس إلى حارس لحفظ النظام وعندما فقدت الأمل في توفير المدرسة لكرات جديدة اقترحت على الطلاب شراء كرة جديدة للفصل من تبرعاتهم وبحيث تحفظ عندهم ولا علاقة للمدرسة بها بوصفها حقا من حقوقهم، وطبعا لاقى المقترح موافقة الجميع ثم سألت الطلاب سؤالا: ماذا ستفعلون بالكرة المرشحة للشراء بعد نهاية العام الدراسي ؟ سمعت بعض الأجوبة المعقولة، وكان أغربها: يا أستاذ بعد نهاية العام الدراسي يجب تمزيقها!!!!
مضت الأيام على وتيرة متشابهة ، كان داخل عزبتنا تقاربات معينة ترتبط بالانتماء للمنطقة، أو بمدى قدم الزمالة، أو الارتياح الشخصي، وعندما تفككت عرى العزبة كما أسلفنا اتضحت بعض التباينات وصار التصنيف يمكن رصده ضمنيا ولأنني كنت مستجدا فكان اختياري في عزبة الأغلبية وكنت أصنف نفسي في الخط القريب من جميع الأطراف وكان استقطابي يعني رقما غير مؤثر انضم إلى هذه المجموعة أو تلك، ولكن كنت أعلم أن مجرد ترددي اللافت مع مجموعة معينة سأحسب منها. كانت هذه اللعبة من التوازنات والأحلاف تتم بصمت ولا يدركها إلا من عاش داخل السكن، وقد يعطي البعض لبعض التقاربات، أو التباينات معاني أكثر مما تتحمل.هذا الوضعية الهلامية جعلتني أضطر لتحديد موقف واضح عندما تكررت جوانب من القصة في عزبتنا في ثانوية الزبيري بالجول بمديرية الثورة في قصة لا مكان لذكرها هنا.
مع نهاية العام الدراسي توادعنا وداع الأصدقاء ،لقد كسبت من تجربة الانقسامات بعض الخبرات بالناس ونفسياتهم، ولكن كان وما يزال أمامي وقت طويل كي أفهم الناس، وأجيد فن مداراتهم.
عدت إلى المكلا بعد أن طلبت تحويل ملفي إلى مكتب التربية بالمكلا قبل بداية العام الجديد وقبل أن تنتهي مدة تأجيلي بأيام، كان هناك من يستدعيني من معسكر المليشيا كي استعد لأداء الخدمة العسكرية الإجبارية. في مكتب التربية والتعليم بالمكلا التي وصل إليها ملفي الوظيفي ظهرت إشارات مشجعة على تمديد تأجيلي عن الخدمة العسكرية ولكن هذا يعني أن حلم الدراسة الجامعية سيبتعد مسافاته جديدة، وربما يصير بعيد المنال ، فكرت مليا ثم اخترت المضي في طريق العسكرة الإجبارية كي تستحق الأحلام الطموحة لذة الانتظار بأمل..سحبت كل الأوراق وتوجهت باختياري إلى مكتب التجنيد الإجباري وصار لابد من العند وإن طال السفر

——
نشر في مجلة الفكر الصادرة عن جمعية أصدقاء المؤرخ سعيد عوض باوزير


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.