أقرأ هذه الأيام أو بالأحرى أعيد قراءة رواية (بنات الرياض) لرجاء عبدالله الصانع التي نشرتها في البدء على شكل رسائل بالبريد الالكتروني إلى مستخدمي شبكة الانترنت في المملكة العربية السعودية صبيحة الجمعة من كل أسبوع، ثم نشرتها مكتوبة وقد أفصحت عن اسمها. وكما هو معروف أثارت الرواية كثيرا من الآراء والتعليقات ووجهات النظر.. حتى صارت حديث كثير من السعوديين في مختلف مؤسساتهم، من الدوائر الحكومية والمستشفيات والجامعات والمدارس كما يقول غازي القصيبي رحمه الله، وميزة الرواية أنها لفتاة أولا، وأنها مست أفقا نسائيا محضورا من مضمرات الطبقة الراقية في المملكة، فنزلت كثير من أفكارها وخباياها الأسرية إلى الناس، ونتج عن ذلك آراء مختلفة، وصارت موضوعا عاما نشأ عنه نوع من التفاعل الاجتماعي-الثقافي العام بعيدا عن التوتر المحتقن داخل الطبقة، كان من نتائجه سماع الرأي الآخر وربما تقبله، وإن ظهرت كثير من الآراء في حالة غضب وهيجان كحالة تنفيس عن المفاجأة قرأنا بعضها في صفحات الانترنت حينئذ. وطريقة الإفضاء بالأسرار -ولو بصورة مجملة- مناسبة لمعالجة المعضلات الداخلية في العلاقات الأسرية مما يوسع من نطاق التمرد عليها أو في الأقل عدم الرضا بها من لدن النساء والرجال على السواء. وهذه الطريقة من البوح لها أسبابها، منها ضغط العادات والتقاليد، ورغبة الذات المقموعة في التعبير عن نفسها انطلاقا من استشعار وجودها وتحسس حالها، ورغبة العربي الموروثة في التعبير عن ذاته بالحكي والشعر، والجاذبية الاجتماعية والنفسية للإفشاء، والجرأة الخاصة لدى بعض الكتاب في الإفصاح عن المكبوت، والشوق إلى ملامسة فوران الحياة، وتأثيرات القراءات والسفر والفضائيات والزملاء، وانفتاح شبكة الانترنت. لقد قدمت الكاتبة تمردا نسائيا بنى تحولاته الخاصة في السر، وظهر كما لو كان مكتملا، وهي مجازفة رائعة من فتاة في مجتمع شديد المحافظة تمثل كتابة المرأة فيه لحظة خروج حاسمة، وكتابتها بطريقة الرواية أشد حسما لأنها أشد تجسيدا ومن ثم أكثر قراءة وشيوعا، لاسيما في صدورها عن اقتناع واضح تجلى في إصرار الكاتبة في مواضع مختلفة من روايتها على المضي في مشروعها مهما ضج الضاجون ((قامت الدنيا علي ولم تقعد، واشتعل صندوق إيميلي بالرسائل المفخخة. البعض يحذرني من الاقتراب من الخطوط الحمراء، والبعض يعتبر أنني قد تجاوزتها بالفعل وسوف أعاقب على تدخلي في شؤون الآخرين حتى أكون عبرة لكل من تسول له نفسه تحدي المجتمع وتقاليده بهذه الجرأة والصفاقة والثقة بالنفس. على من تقرأ كتابك ياموسى!)) (ط3/ ص132) والواقع أن الرواية لافتة بوعيها بأزمة الفتاة من داخلها وانتقادها للرجل، وإن تجلى ذلك الوعي لذاته داخل مجتمع النساء فقط وأفصحن لبعضهن عنه، من غير أن يبرز في علاقات المرأة -داخل الرواية- مع الرجل الذي لم يطلع عليه ويتفاعل معه إلا من الخارج بوصفه قارئا، ومن هذا المنطلق تكشف الرواية عن لحظة تأزم تعانيها الفتاة والمرأة عموما تجلت في عدم قدرتها على مواجهة الرجل، ومن ثم عدم قدرتها على فهم تصرفاته، كيف يفكر؟ كيف يبني تصوراته؟ ماذا يريد؟ كيف يمكن جره إلى التفاعل وفهم المرأة التي تتفاعل أزمتها داخل مجتمع النساء فقط؟ بغض النظر عن جريان هذه الأزمة داخل طبقة معينة أو في جزء معين من العالم العربي، فالوعي الاستعلائي هو نفسه الماثل في ذهن الرجل العربي حيثما كان، وإلى أي طبقة انتمى، والمؤلم أنه يتبدى في إطار كيان اجتماعي واحد يسهمان أو يرغبان في بنائه هو الأسرة!. لقد استدعت الرواية –عبر تلك الأزمة- ضمنيا رؤاها الخاصة وما تطمح إليه من تحول وأسهمت بنصيبها في حركة ثقافية أخذت تشمل المجتمع كاحتياج اجتماعي وفكري وتاريخي، من غير أن تكون انتقادا عابرا، أو لمجرد الانتقاد، وإنما تتنزل على واقعها بصورة مؤثرة، فموقعها في إطار عملية التغيير الاجتماعي من أصعب المواقع واللحظات التاريخية التي تجعل أفكارها نفسها قابلة لكثير من الإضافات عبر الانفتاح على آفاق المستقبل. وانطلاقا من هذا فالثيمة الرئيسة التي تعالجها الرواية هي سرعة التنكر للمرأة وبتر العلاقة من قبل الرجل (الشاب تحديدا في الرواية) بحيث تعيش الفتاة حياة المخاوف، وتحلم بسبل الأمان مع الشاب الذي يتمسك بالموروث النفسي والاجتماعي ويبتعد عن خطيبته أو زوجته ليقترب من العلاقات القديمة منطلقا من تصور وظيفي متوارث لدور المرأة يرتسم في إطاره استعلاء وشك وقسوة وإحساس طاغ بالقدرة على امتلاك القرار والتحكم بمصير المرأة، فعلاقة الشاب بالفتاة منذ الخطوبة كثيرا ما سارت إلى التأزم وإن بدت منسجمة في بادئ الأمر، وكل فتيات الرواية عشن تجارب مع الشباب آلت إلى أن يعشن في الضياع.. راشد مع قمورة، وفيصل مع ميشيل، ووليد مع سديم، وحالات أخرى… وسنكتفي بهذا المقطع من علاقة وليد مع سديم (( الورد الأحمر الذي نثرَتْه على الأريكة، والشموع المنتشرة هنا وهناك، والموسيقى الخافتة التي تنبعث من جهاز التسجيل المخفي، كلها أمور لم تثر انتباه وليد، كما أثاره القميص الأسود الذي يكشف من جسمها أكثر مما يخفي، وبما أن سديم كانت قد نذرت نفسها تلك الليلة لاسترضاء حبيبها وليد فقد سمحت له بالتمادي معها حتى تزيل ما في قلبه من ضيق تجاه تأجيلها لزفافهما، لم تحاول صده كما اعتادت أن تفعل من قبل إذا ما حاول تجاوز الخطوط الحمراء التي كانت قد حددتها لنفسها وله في بداية أيامهما بعد عقد القران. كانت قد وضعت في ذهنها أنها لن تنال رضاه الكامل حتى تعرض عليه المزيد من أنوثتها، ولا مانع من ذلك في سبيل إرضاء وليد الحبيب. من أجل عين تكرم مدينة. انصرف وليد بعد أذان الفجر كعادته إلا أنه بدا مشتتا وحائرا على غير العادة. اعتقدت أنه يشعر بالتوتر مثلها بعدما حصل، انتظرت سديم اتصاله المعتاد بعد وصوله إلى منزله، خاصة وأنها بحاجة ماسة لرقته وحديثه بعد ليلة كهذه، لكنه لم يتصل)) (ص40-41)لا في اليوم نفسه، ولا بعد يوم، ولا ثلاثة أيام، ولا بعد أسبوع، فقد قطع علاقته بها إلى الأبد، رغم أنه قد تم عقد قرانهما. لقد انخدعت بحسن صدقها معه وهو الذي كان (( يلومها كلما حاولت صده بقوله إنها زوجته على سنة الله ورسوله، وكانت خالتها وأم نوير يحذرانها من مجاراته لأنها ماتزال خطيبته فقط! فمن تصدق؟ من يشرح لها سيكولوجية الشباب السعودي حتى تتمكن من الفهم! هل اعتقد وليد أنها فتاة مجربة!!؟؟ )) (ص42) وبمثل هذه الطريقة تكشف رجاء الصانع عن حالات أخرى تتصل بعالم الفتاة الداخلي بينها وبين الشاب، أو بينها وبين قريناتها، أو أهلها ((قمرة على طرف السرير، في غرفتها بفندق جورجونيه في فينيسيا، تمسح فخذيها وقدميها بمزيج مبيض من الجليسرين والليمون أعدته لها والدتها، وقاعدتها الذهبية تملأ ذهنها (لا تصيري سهلة…) التمنع هو السر لإثارة شهوة الرجل. لم تسلم أختها الكبرى نفلة نفسها لزوجها إلا في الليلة الرابعة، ومثلها أختها حصة، وها هي ذي قمرة تحطم الرقم القياسي ببلوغها الليلة السابعة بعد زواجها دون أن يمسها راشد حتى الآن)) (ص20)إنها بذلك تراعي رغبة الرجل في أخص ما تشربه عن موروثه الاجتماعي لتبدو مقبولة في نظره، غير أنها كثيرا ما أخفقت في كسبه سواء جازفت في تقديم ما ترى أنه يرغب فيه كما فعلت سديم في المقطع السابق بعرض نفسها على وليد رغم عقد قرانهما، أو تمنعت كما فعلت قمورة مع راشد متبعة تعليمات أمها حرفيا ومستفيدة من خبرتها. ما يزال الشاب والشابة كلاهما غريب عن الآخر، مما يثار معه سؤال تلقائي: كيف يبحث الشاب المثقف عن زوجته؟ وما هي طريقته في كيفية التعاشر معها؟ الإجابة الواضحة من خلال أحداث الرواية أن الشباب (المثقف) ما يزال يبحث عن المرأة في إطار العلاقات الأسرية التقليدية، وفي ذلك اختبار جدّي لثقافته، غالبا ما يخفق فيه، فسديم عندما نثرت الورد الأحمر فوق الأريكة وأرسلت الموسيقى الخافتة، وأضاءت الشموع كانت تقدم المعنى الإنساني الخالص لحبها لوليد الذي لم يكن يهتم بغير الثوب الأسود الخفيف على جسدها (ص40) وقمرة أحبت زوجها راشد طالب الدكتوراه بشيكاغو (( رغم ما قابلها به من قسوة وغلظة، وتعلقت به على الرغم من كل شيء، فهو أول رجل تختلط به من خارج وسط محارمها، وهو أول رجل يتقدم لطلب يدها ليشعرها بأن هناك من يحس بوجودها في هذا العالم. لم تدر قمرة هل أحبت راشد لأنه جدير بأن يحب، أم لأنها تشعر بأن من واجبها أن تحبه بصفته زوجها، لكن الشك الذي بدأ يغزو قلبها من ناحيته أقلق منامها وأقض مضجعها وجعل أيامها سوداء بسواد أفكارها)) (ص63) ولم يشعر راشد بهذا الحب حتى مجرد إحساس عام، أو أنه تحاشاه، بينما اتسمت قمرة بمرونة وصبر في علاقتها مع راشد الذي سرعان ما تأفف منها وطلقها. لقد عوملت المرأة –كما هو سائد- بوصفها كائنا ينظر إليه في مصفوفة القيم الأسرية كشيء مستور وخاص لا يمكن أن يكشف عن أحواله في إطار الحفاظ على تماسك الأسرة والمجتمع، مما دعا الكاتبة للإفصاح عن بعض هموم المرأة الشابة وشواغلها العاطفية، فأفضت ببلاغة مكتومة محاولة تجاوز المعنى الارتكاني السلبي الذي اتسمت به المرأة، مستفيدة من طرح الرجل القارئ على البريد الالكتروني تقريعا وتشجيعا في تفاعل أسبوعي مع ما تكتب فصلا فصلا ( تنظر الرواية الصفحات184،189،211) الأمر الذي قفز بكتابة رجاء الصانع إلى مدار الاهتمام، وإن كانت كتابتها ليست بالأجود بين زميلاتها من الروائيات السعوديات غير أنها حظيت بذيوع كبير للتفاعل الاجتماعي الذي قام حولها وأدى إلى الاهتمام بها من خلال توجهها إلى المجتمع مباشرة عبر مكتوب بريدي خفيف الوقع، لا يتجاوز عدة صفحات، يمكن أن يقرأه أي فرد في المجتمع لسهولته وسلاسته وجاذبيته لاسيما أنه يبث يوم العطلة الأسبوعية (الجمعة). ولعل إرسال فصول الرواية من بريد الالكتروني مجهول المرسل أسهم في زيادة جرأة الكاتبة، وفي زيادة عملية التفاعل الاجتماعي معها، ولا شك أن هذا العمل قد سبقته محاولات خاصة لم تر النور من لدن الكاتبة أو من لدن غيرها. وعدم ذكر الاسم يقدم الاقتناع بالموقف أولا وأخيرا، وهو الأهم، ويأتي ذكر الاسم بعد ذلك كدليل إشهاري، وإثباتي من حيث نسبة النص إلى صاحبه. إن إخفاء الاسم بادئ الأمر يحمل انتقادا ضمنيا لقمع المرأة، ودعوة لمنحها مساحة أكبر للتعبير عن نفسها، لاسيما في إطار كشف سلبيات يمكن من خلال عرضها وانتقادها أن تغدو المرأة حاضرة بفاعلية في رأس الوجود الاجتماعي مما يوفر لها شيئا من الإحساس بوجودها بوصفها ذاتا لا موضوعا. وفي هذا السياق يلاحظ أن موقف الكاتبة لم يكن بعيدا عن ترددات عواطف شخصياتها ومشاعرها مما تجنح إليه الروايات ذات الطابع الإنساني ( ينظر موقع حاتم الصكر الالكتروني – لحظتان سرديتان في عملين لميسلون هادي). إن الرواية ليست جديدة كل الجدة في موضوعها غير أن الذبذبات الخاصة لطبائع العلاقات النسائية، والسرد والوصف بلسان الراوية (الفتاة) أعطى الرواية خصوصية في الالتقاط (( صعد راشد مع أبي العروس وخالها وإخوتها الأربعة إلى المنصة، وكل منهم يحاول لمح أكبر قدر ممكن من أوجه النساء اللواتي تركزت أنظارهن على الخال الأربعيني الذي يشبه الأمير الشاعر خالد الفيصل إلى حد كبير )) (ص18) هذه الحركة النفسية العاطفية تكتمل حيويتها من خلال شبكة الانفعالات الصغيرة المبثوثة في الرواية التي تكشف كثيرا من خبايا الفتيات النفسية وانفعالاتهن في تماثل السن والأحلام (( هناك هتفت صديقات العروس بحماس: عاوزين بوسه! عاوزين بوسه! فابتسمت أم راشد واحمر وجه أم قمرة، أما راشد فحدجهن بنظرة أسكتتهن في لحظة. لعنتهن قمرة في سرها لإحراجها أمامه بهذا الأسلوب، ولعنته أكثر لإحراجه إياها أمام صديقاتها بعدم تقبيلها!)) (ص19) بل إن الكاتبة نفسها تشير – رمزيا أو واقعيا- إلى طريقة طريفة تعينها على البوح، دالة على سنها وتجربتها في مرحلة أولية من العمر (( نكشت شعري، ولطخت شفتي بالأحمر الصارخ، وإلى جانبي صحن من رقائق البطاطس المرشوشة بالليمون والشطة، كل شيء جاهز للفضيحة الأولى )) (ص13) وفي ظل هذه الحالة النسائية الخاصة من الإفضاء، هل يمكن لشاب أن يكتب رواية مقابلة عنوانها شباب الرياض، يكشف من خلالها عالم الشباب من الداخل لتكتمل الصورة؟! لقد اختارت الكاتبة ظرف استقبال روايتها المرتبط بشباب الانترنت وبالسياق الثقافي العام في المملكة العربية السعودية والعالم العربي كله مستفيدة من إمكانية النشر عبر الوسائط الالكترونية، ومن جرأة اللغة الحديثة في التعبير عن المكبوت، فكانت تبني روايتها في الوقت الذي تبني وجودها منتجة وجودين معا كتابي ومجتمعي، ذلك لأنها توافرت على توسيع مساحة رأيها وقولها الذي انبثق عن إرادة مستقلة للتعبير عن الذات، ومن ثم كانت مسؤولة ولو بصورة جزئية عن انبثاق سلسلة من الكتابات الروائية النسائية نتجت بجرأة النص وليس عنه بالضرورة، ولاقت حضورا واضحا. ولأن الكاتبة عاشت عالمها بحرقة فقد وجدت في المقولات التي تبتدئ بها كل فصل من فصول روايتها ما يعينها على إدراك حالاتها، إذ كانت تتراسل مع تلك الكلمات شغوفة بها، ولم تر تناقضا بين التكوينات العاطفية لروايتها وما توحي عقلانية تلك المقولات غالبا. ونستطيع أن نقول -على سبيل المقاربة- إن كل فصل من فصول الرواية جاء بمنزلة شرح تفصيلي (عملي) على التعليق الذي يرد في رأسه، وقد أشارت الكاتبة إلى ذلك (( إن الآيات والأحاديث والاقتباسات الدينية التي أوردها في إيميلاتي تلهمني، والمقولات المشهورة والأغاني التي تحتويها رسائلي تلهمني أيضا، فهل هذا تناقض كما يزعم البعض؟ هل أكذب وأدعي أنني أحادية الهوى وبدائية التركيب؟! أنا كأي فتاة في سني، بل كأي إنسان في أي مكان! فرقي الوحيد عنهم أنني لا أتوارى ولا أحب السكوت ولا أستحي مما أنا عليه)) (ص158) وكان ممن استدلت بهم هيلين كيلر التي تحدت فقدان السمع والبصر لتثبت نفسها كاملة الحيوية في مجتمع بارز الطاقات كالمجتمع الامريكي (( إما أن تكون الحياة تحديا ومغامرة، أو أن لا تكون شيئا أبدا )) (ص22) وتي إس إليوت أحد رموز النقد الجديد ((وحدهم الذين يقومون بالمجازفة يمكن أن يكتشفوا إلى أي مدى يمكنهم البلوغ )) (ص158) إن ترافد المقولة والنص ينطلق من رغبة الكاتبة في إيصال رسالتها، وتأكيد مسارها الذهني والعاطفي. إن المرأة الآن تتكلم، وهي التي كانت غالبا ما تقوم بدور المستمع الصاغر، إنها تشارك الرجل في الإعلان عن وجودها ضمن تكتيكات ثقافية واجتماعية وسياسية ربما تتعدل معها قواعد اللعبة مما يجعل الرجل في موقع مراجعة الذات لأجل المرأة، وليس أن تراجع المرأة ذاتها لأجله دائما، إنها تعيد إحياء الميثاق الإنساني بينهما، وكأن الرجل يحاول استكشافه من جديد، وإن كانت الظروف الاجتماعية والسياسية وقيم العادات والأعراف والتقاليد ستظل تعمل على ضبط صيغ التمرد إلى أمد بعيد ليتم في إطار ما تسمح به. إن ما تحلم به الفتاة هو الانسجام في نسق حياة طبيعي مع الرجل بمحبة وتوافق، ولعل أهم مشكل يشغلها هو تحقيق ذاتها وإنسانيتها بما يثري حياتها من داخلها، وليس خارجيا فقط من حيث الطعام والملبس والسكن، وهذه المسألة يسهم في تحقيقها جسدها، ولكن ليس بما يشتهيه الرجل منه فقط، وإنما بما تشتهيه الفتاة أيضا من الإحساس بجسدها وحضوره في ظل ثقافة ممكنة أو محتملة منظور إليها بشوق كبير. إن طريقة تعامل الرجل مع جسد المرأة خارجيا وداخليا، أو مظهريا وجنسيا تفصح عن طبيعة علاقته بها في احترامها أو عدم احترامها، فبعد وصول قمرة وراشد إلى شيكاغو (( كانت ترتدي عند خروجها معطفا طويلا فوق ثيابها مع حجاب أسود أو رمادي، حتى لباسها هذا أصبح بعد فترة مصدر إزعاج لراشد. - ليش ما تلبسين ملابس عادية مثل باقي الحريم؟ كإنك تتعمدين تحرجيني قدام أصدقائي بهذه الملابس المبهذلة! وتسأليني ليش ما أطلع معك!)) (ص60-61) بعد ذلك ((ألحت عليه في أحد الأيام أن يصطحبها إلى السينما، بعد أن وصلا واتخذ مقعده في القاعة وهي إلى جانبه، فاجأته بنزع معطفها وحجابها، وهي تبتسم بخجل وتحاول قراءة أفكاره في تلك اللحظة. بعد أن تأملها بطرف عينه لبضع ثوان قال لها بجلافة: - الحجاب أرحم… البسيه بس البسيه)) (ص61) لقد حاولت إرضاءه باتخاذ هيئة تقليدية لثيابها، فأبدى تأففا منها، فلما حاولت إرضاءه بصيغة مختلفة، وكشفت عن معطفها أهانها مرة أخرى من غير أن يتفطن إلى مضمر جسدها الإنساني والعاطفي لأجله، وظل عند حدود الثياب فقط. كما ظل وليد عند الثوب الأسود الشفاف لسديم ناسيا كل مشاعرها. وبمثل ذلك يمثل الجسد في الرواية لحظة شعورية للرجل لا يمكنه أن يمتد إلى ما بعدها عميقا في مشاعر المرأة، وتظل عواطفه الإيجابية أو السلبية نحوها تتشكل من حيث نظرته إلى الجسد بوصفه يقدم وجودا إضافيا لاكتمال رجولته أو لاكتمال ممتلكاته، فالمهم بالنسبة إليه الإفضاء بشحنته نحوها، سواء كانت شحنة عاطفية (تعبيرية) أو شحنة ودية (هدية مثلا) أو شحنة جسدية (جنسية) لها تكثيفها وامتلاؤها، ولكن لها في الوقت نفسه آنيتها الزمنية، وما بين ذلك ثمة اتصالات أخرى بالمرأة من خلال قيم أخرى اجتماعية وثقافية استعلائية واستحواذية. هذا إن لم تكن لحظات الاتصال الوجداني نفسها ملغومة بهذه القيم. لقد أرادت الكاتبة الانتفاض على هذا الوجود بممارسة البوح عبر الكتابة، والإفصاح للرجل (الشاب تحديدا) بشيء من أزمة المرأة، لعل في ذلك ما يدعوه إلى إعادة النظر إليها كجسد محمل بطاقة إنسانية يجب الاهتمام بها في إطار تحول اجتماعي ومفهومي بدأ يفد رويدا إلى عالم المرأة والرجل في عالمنا العربي.