من حسن حظِّك – سيد جُحا – أنَّك لم تكن واحدا من تِعداد سكان هذا العصر , وإلا لأصبحتَ صديقا لأحد أمراضه وأسقامه, ولاعتادت زيارة جيبك عقاقير مثل ( جلوكوفانس…اتروفستاتين …). لا أظنُّ طرافتك ستبلغ ما بلغَت, وحِكَمك ستتخطَّى نطاق الزمن, لو كنتَ تقتَني ( لاب توب, أو آيباد, أو جلكسي). أنت لا تعرف حتى مسمِّياتها بل ماهيتها, ولا مَدَى حاجتها وضرورتها, وهل فقدُها نقصٌ وحرمان؟ أم وجودها وعدمها سواء؟. هي أجهزة صغيرة يسمُّونها الذَّكيَّة, ولا يؤثِّر حملُها على ظهر حمارك, ولا يترك آثار جانبيه. هل تعرف – سيد جحا – لو كنتَ تملُك جلكسي؛ كنتَ ستجهلُ الضيف الجديد الذي نزل بالشقَّة المجاورة لك, وستجهلُ – أيضًا – الغريبَ الذي بدأ يتردَّدُ على مسجدكم, وجارَك القديم الذي غادر حييكم مؤخرا. لستُ مبالغًا في كل ما قلته لك, لقد رأيتُ الاستغرابَ على ملامحَ وجهِك. لو كنتَ تقتَني جلكسي لن يكون لديك وقتًا للإبداع والقراءة والتفكُّر والمخالطة الإيجابيَّة, وكل هذا جزء من كينُونة المرء وشخصيته. لو كنتَ تقتَني جلكسي – سيد جُحا – لحدثَ تغييرٌ لطول رقبتك, ولأصبَحَتْ بقدر سنتيمتر واحد, وصارَ ذقنك ملازما لنحرك, وتدلَّى نظرُك على الشَّاشة الصغيرة مُبَحلِقًا فيها. أكثرُ مَن يقتني الجلكسي يسخِّرُهُ في سباق السَّيارات وعراك الشَّوارع؛ وهي ألعاب يحتويها ذلك الصَّندُوق الصَّغير, وبعضُهم يحادثُ بها آخرين على شاكِلته عبرَ أحبال تواصل يسمونها برامج أعرفُ واحدا منها يُقال له: واتْ سَبْ, هكذا سمَّاه أبوهُ ولا تسألني لماذا؟ وكيف؟ وما يعني؟. لا يضحكوا عليك ويوهموك أنّها سبيل لتعارف الحضارات, وتَلاقُح الأفكار, ورصدِ خبرات الآخرين, أبدًا, أكثرُهم يلعبون بها ويَلهُون, ويتبادلون الطَّرائف والنَّوادر والقِيل والقال, وقليل هم ؛ بل أقلُّ من القليل مَن يُجيد حسنَ استعمالها. أضحَكَتْني كثيرا قصةُ حمَلِك الحمار المشهورة برفقة ابنك, بعد أن أعيَاكما إرضاء الناس, كانت فكرة مضحكة جدا ولا يفعلها إلا جُحا, فعمرُ الحمار منذ أن خلقه الله تعالى وهو حامل وليس محمول, هكذا عَرَفَ نفسَه ويعرف أباه وجده كذلك كانوا, بل هو لا يحب إلا أن يكون حاملا لكل شيء, بغض النظر عن نفاسة المحمول أو حقارته, فهذا شأن لا يعني الحمار في شيء, فلا فرقَ لديه بين الجواهر والأباعر, لأنه لم يُخلق ليسأل ولكن ليحمل. لو كنتَ تقتني جلكسي حينها لَمَا حمَلتَ الحمار, ولَمَا شعرتَ بدخولك السوق أصلا, لأن هناك ما سيشغل سمعك عن نقد الناس وأقاويلهم. لم يكن عصرك – سيد جُحا – مُلوَّثًا بصناديق الجيب الصغيرة تلك, كان نقيًّا سليمًا مُعافى, لهذا جاءَت نوادِرُك نقيةً ونظيفةً ومُحتشمةً, وأمَّا اليوم فحدِّث ولا حَرَج. إنَّ قلمي يستَحي أن يخطَّ شيئا من ذلك, لقد غَدَت هذه المخلوقات الصغيرة, أحبالَ مشانِق عُلِّقَت بها رقابُ بعض الأسر, ومُدى ذُبحَت بها الفضيلة, وخناجر نُحِرَ بها الشرف. كم أبكَت من عين؟ ونكَّسَت من رأس, وأذلَّت من عزيز. هي مثل الذُّباب – أكرمك الله –, في إحدى جناحيه داء وفي الآخر دواء. لو كان معك جلكسي –سيد جحا- لأصبحَت مسحورا أو مأسورا في ذلك الصندوق الصغير.