قال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى في الإحياء 2/171 " إن الألفة ثمرةُ حسن الخُلق والتفرّقَ ثمرةُ سوء الخلق، فحسنُ الخُلق يُوجبُ التحابَّ والتآلفَ والتوافقَ وسوءُ الخلق يثمر التباغضَ والتحاسدَ والتدابرَ ". إنها كلمات رائعة جميلة، تُكتب بماء الذهب لدلالتها العظيمة، والذي نريد أن نأخذ من هذه الكلمات المضيئة عبارتين: الأولى: " والتفرّق ثمرة سوء الخُلق " والعبارة الثانية " وسوء الخُلق يثمر التباغض والتحاسد والتدابر ". فالخُلق في ديننا له مكانة عظيمة وهو جزء لا يتجزأ من الإيمان كما قال تعالى في كتابه العزيز {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الماعون: 1 - 3] وقال سبحانه {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين: 1 - 6] وقال صلى الله عليه وسلم (بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) رواه البخاري في الأدب المفرد ورواه أحمد في المسند وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، فديننا يقوم على الأخلاق الفاضلة الحسنة التي تثمر الخير والصلاح وتنشر الألفة والمحبّة والسلام وأما الأخلاق السيئة فهي تثمر التناحر والتدابر والفرقة والبغضاء والتقاتل والظلم والتعالي على الناس والتسلّط والانقسام والعنصريّة واستضعاف الضعفاء وغيرها من مساوئ الأخلاق. وإنني أقف عند أمر خطير وثمرة من ثمار سوء الخلق إلا وهو التفرّق لما لهذا الخلق من مساوئ خطيرة تعصف وتدمّر كل كيان لا يصل إلى مطلوبه إلا بالاجتماع والتوافق. وقبل الخوض في هذا الموضوع الحسّاس وعلاقته بقضيتنا الجوهرية القضية الجنوبية حيث صارت تمثّل مكانة مرموقة في حياة أبناء الجنوب وتأخذ مساحة كبيرة من حديثهم وهمومهم، وكذلك مكانة إقليمية ودولية، فلنستعرض أولاً ثلاثة أمور وهي معنى التفرّق، وأهم أسبابه، وثماره السيئة، ثم ثانياً ايجابيات الاجتماع، ثم ثالثاً نبين أثر التفرّق على قضيتنا القضية الجنوبيّة فأبدا مستعينا بالله تعالى: بالأمر الأول: معنى التفرّق لغة واصطلاحاً: أولاً: التفرق لغة: مصدر من تفرّق يتفرّق إذا تشتت ولم يجتمع. ثانياً: التفرق اصطلاحاً: قال المناوي في التوقيف على مهمات التعاريف: التفرّق تشتت الشمل والكلمة. وقال الكفوي في الكليات: التفرّق: إيقاع التباين بين شيئين من نوع واحد. ويمكننا من خلال المعنى اللغوي والاصطلاحي أن نخرج بالمفهوم التالي للتفرّق: عدم اجتماع الأيدي والرأي والكلمة في أمر يكون تحقيقه بالاجتماع والتقارب لا الاختلاف والتباعد. الأمر الثاني: ايجابيات الاجتماع: أولاً: كونه قوة: فالاجتماع قوة والاختلاف والتفرّق ضعف ولذلك قال الله للمؤمنين {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46] أي قوتكم وقال صلى الله عليه وسلم (يد الله مع الجماعة) رواه النسائي وابن حبان وصححه الألباني في صحيح الجامع رقم (3621). ثانياً: أن الاجتماع على الحق رحمة كما قال صلى الله عليه وسلم (الجماعة رحمة والفرقة عذاب) رواه أحمد وابنه في زوائده وحسنه الألباني في ظلال الجنة رقم (93). ثالثاً: أن الاجتماع على الحق يسد طريق المتربصين كما قال صلى الله عليه وسلم (فعليك بالجماعة فإن الذئب يأكل القاصية) أي المتخلّفة رواه أحمد وحسنه الألباني في ثمرة المستطاب. رابعاً: أن الاجتماع على الحق يكثّر الأنصار ويدفع المترددين لنصرة الحق. الأمر الثالث: أسباب التفرّق: من أهم أسباب التفرّق: السبب الأول: الجهل بالقضيّة التي يُنادى الاجتماع حولها، ومن الجهل عدم فهم أهدافها وعدم تمييز ما يخدم القضيّة وما يسيء إليها، فمثل هذا الجهل يضر وهو من الحماقة فقد تجد الإنسان صادق في حبّه لقضيّته ولكنه لا يحسن التعامل معها فتجده يريد أن ينفع قضيّته فيضرها، وهذا هو شأن الأحمق يريد أن ينفعك فيضرك. السبب الثاني: ضيق الصدر للحوار والمناقشة: فضيق الصدر في الحوار والمناقشة يعمّق التباين في الآراء والمواقف وهذا مما لا شك يؤثر على القضيّة تأثيراً بالغاً، والشيطان متربّصٌ بأهل الحق وعدم نصرتهم. وقد أرشد الله تعالى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم إلى سعة الصدر والتقبّل والتحمّل فقال تعالى {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159] وقوله تعالى (لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) أي لتفرّقوا من حولك، وهذا التفرّق سيؤدي إلى ضعف الدعوة في مواجهة المشركين وقلّة الملتفّين حولها. السبب الثالث: اختلاف وتعارض المقاصد والمصالح: فلابد لكل أصحاب قضيّة عادلة أن تتفق أهدافهم ومصالحهم فإن عدم التوافق يؤدي إلى التفرّق والاختلاف، وهذا يضعف القضيّة أو يميتها. السبب الرابع: الغموض وعدم الوضوح: من فوائد الوضوح أنه يجعل الإنسان يدخل الأمر على بصيرة واقتناع، فلذلك لابد لأصحاب القضيّة الواحدة أن يكونوا واضحين فيما بينهم وفيما يدعون إليه، فالإلتواء طريق محفوف بالمخاطر ومآله الضعف والهزيمة. السبب الخامس: التعامل وفق سياسة الإحتواء والإقصاء: فهذه سياسة ماكرة هدفها إلغاء الآخرين، وعندما يشعر الآخرون بالإقصاء أو الإحتواء فإن من الطبيعي يكون التفرّق، وهذا التفرّق يؤدي إلى التنفير عن القضية والتشكيك في صدقها وأحقيّتها. وقد استخدم اليهود أسلوب الدخول والخروج للتنفير من دعوة النبي صلى الله عليه وسلم والتشكيك كما قال تعالى {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران: 72]. السبب السادس: عدم تحديد المرجعية أو التوافق عليها: فتحديد المرجعيّة أو التوافق عليها يقطع التنازع والخلاف، ويجنب الشقاق والشتات. ولما كان النزاع أمراً يتوقّع حدوثه بين المسلمين عامه وبين أي مكونات خاصة أمر الله بالرجوع إلى كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59] وردّ الأمور المستحدثة إلى الراسخين في العلم فقال تعالى {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 83] فالشيطان حريص على صد الناس عن العلماء وجعل بينهم وبين العلماء فجوة وقطيعة، ويتحقق له ذلك بعدم جعلهم مرجعيات للناس وإقصائهم عن قضايا الأمة. الأمر الرابع: ثمار التفرّق السيئة: من ثمار التفرّق السيئة: التنازع، والتدابر، والتنابز، والتحاسد، والتباغض، والتناحر، والتباين، والتخاذل، والتشتت، والانقسام، وانتصار الخصم، وإضعاف القضيّة أو إماتتها. وبعد هذه اللمحة الموجزة عن معنى التفرّق وإيجابيات الاجتماع، وأسباب التفرّق وثماره السيئة يمكننا الآن الحديث عن أثر التفرّق على القضية الجنوبية. فالقضيّة الجنوبية كما أكدت مراراً وتكراراً بالنسبة لأبناء الجنوب قضيّة جوهرية لا هامشيّة أو من ترف السياسة بل هي جوهرية بامتياز ينبنى على حلها استقرار الساحة المحليّة والإقليمية، وهي حيّة في نفوس أبناء الجنوب، وتزداد قوة وصلابة ونشاطاً بتزايد تردّي الأوضاع في الساحة الجنوبية، ولكي تبقى حيّة في نفوس أبناء الجنوب عامة وفي تمثيلها في المكونات الحراكيّة والحركيّة خاصة، وعدم تعرّض جدارها إلى تصدّع داخلي أو خارجي، وحفظ تلك الكيانات والمكونات الحراكيّة والحركيّة التي تسعى مع أبناء شعبها لاستعادة الحق المسلوب لأنباء الجنوب ورد الاعتبار لهم كونهم شعباً له سيادته ومكانته ومقوماته. وحتى لا تموت القضيّة أو يلتف عليها من خلال تفرّق كياناتها، لابد من وضع تحصينات قويّة ومن هذه التحصينات. أولاً: المحاورة وسعة الصدر للمحاورة بين المكونات الحراكيّة والحركيّة: على أن يكون بناء المحاورة على أساس التقارب لا التباين أو الخروج إمّا غالب أو مغلوب، بل لابد من تغليب مصحلة القضيّة وتحقيق أهدافها وإذابة الذات، فالأنانية واللهث وراء المناصب يُخرج القضية عن جوهرها. ثانياً: العمل بجد للخروج برؤية توافقية تحقق لأبناء الجنوب مطالبهم العادلة، لأن تعدد الرؤى يُحدث تشتّتا للكلمة وهذا هو عين التفرّق، ولازم ذلك الجلوس على طاولة الحوار والمفاوضات. ثالثاً: البعد عن سياسة الإقصاء أو الإحتواء لأن في كلا الحالتين ممارسة الإلغاء وهذا لا يقبله الفريق الذي يقع عليه الإحتواء أو الإقصاء، بل ينبغي إشراك الجميع وإعطاء كل مكوّن مقامه في التمثيل، لمنع الطريق من وصول الخصم أو المتربّص بالقضيّة لإضعافها أو إماتتها، وهذا من باب تأمين سير القضيّة. رابعاً: الرجوع إلى المرجعيّة الشرعيّة والسياسيّة في اختلاف وجهات النظر أو استحداث أمور جديدة أو مواقف جديدة. خامساً: الحذر ثم الحذر من الإملاءات الخارجية المدفوعة الثمن التي تقوم على الصراعات السياسية بين الدول التي تُخرج القضية عن مسارها الحقيقي وتكون خاضعة لتوجّهات تلك الدول المانحة فتتحوّل القضيّة إلى طرف من صراع الدول المتصارعة. أما تقديم العون والنصح والرأي وكل ما هو بعيد عن الإملاءات والشروط التي لا تتفق مع أهداف ومصالح القضيّة، فالأصل قبولها والنظر إليها بما يحقق للشعب مراده ومطلبه ويحفظ له دينه وعقيدته. سادساً: الحذر من الإشاعات وما يبثه المرجفون من خلال وسائل الإعلام المختلفة وخاصة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي. بل ينبغي التثبّت والتأكّد من الجهات أو الأشخاص، وأحيانا يكون نشر الإشاعة غير متعمّد لسوء الفهم للمقال أو العبارة وكما قيل وما آفة الأخبار إلا رواتها، والله سبحانه وتعالى أمرنا بالتثبّت في تلقي الأخبار ونقلها فقال تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6] وقال صلى الله عليه وسلم (كفى بالمرء كذباً أن يحدّث بكل ما سمع) رواه مسلم. نسأل الله تعالى أن يدفع الظلم عنا وسائر المسلمين وأن يعيد لأهل الحق حقهم ويجازي الظلمة بما يستحقون وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين - خطبة الجمعة للشيخ أحمد بن علي برعود بجامع الفرقان بمدينة الشحر