خلال إجازة العيد قمت رفقة بعض الزملاء بزيارة خاطفة لصعدة لم تزد على اثنتي عشرة ساعة , وخلال الرحلة من حوث باتجاه صعدة تجاوزنا منطقة الجبل الأسود آخر حدود حاشد حيث سفيان بداية الحدود الجغرافية التي يسيطر عليها الحوثيين . من مدينة حرف سفيان وعلى طول الخط الممتد حتى صعدة لن يفوتك أو يلفت انتباهك سوى شيئين : · بيوتٌ مهدَّمةٌ وخرابٌ ودمارٌ يُوحي بمناظر بيروت الثمانينيات , وتحت تلك الأطلال وبجوارها يعيش السكان , هذا أول ما يلفت الإنتباه ويثير التساؤلات ويوقظ الضمائر الميتة , وليس لأحد من تجار الحروب ومسعريها مهربٌ فستظل لعناتها تلاحقهم أبد الأبد . · الحياة الطبيعية للمواطنين : عمل دؤوب وحركة تجارية نشطة ومواد غذائية متوفرة ومشتقات نفطية لا تخلو منها محطة بترول , وغاز منزلي متوفر وكهرباء عادية تستمر في أحايين – بحسب من أخبرنا من أهلها – من 12 – 18 ساعة يومياً . والأهم من كل ذلك الأمن والأمان على طول الطريق ليلاً ونهاراً , الحوثيون والجيش ورجال الأمن يتعايشون بود وإخاء واحترام غير معهودين في الفترة من 2004 – 2010م . مدينة صعدة بثوب جديد , إنها أفضل من كل المرات التي زرتها , لأول مرَّة أشعر بالراحة فيها , ما أعرفه عن نفسي أني لا أطيق الليل فيها حيث أشعر بكآبة جوها , لقد تغير الحال فصعدة على غير المعهود . كثُر الحديث عن الحوثيين وسيطرتهم على صعدة ومع ذلك لم ألحظ أي تواجد حوثي باستثناء نقطتين أو ثلاث على امتداد الطريق الإسفلتي من سفيان حتى صعدة , وبدون اللافتات الضوئية والملصقات الإعلانية لشعار ( الله أكبر , الموت لأمريكا , الموت لإسرائيل , اللعنة على اليهود , النصر للإسلام ) لا يستطيع أحد الجزم بأيّ تواجد للحوثيين في صعدة . مؤسسات الدولة وأجهزتها التنفيذية المدنية والعسكرية تعمل بشكل طبيعي والموظفون يعملون بصمت ومعاملات الناس تمر مرور الكرام وقضاياهم تجد الطريق ممهداً للحل . وباستثناء جامع الإمام الهادي (ع) الذي زرته فوجدته على غير المعتاد , لقد تطوَّر تطوراً مذهلاً مقارنة بما كان عليه الحال قبلاً , لاحظت وجود اثنين من المسلحين الحوثيين في بوابة الجامع الرئيسية كحماية وأمن للجامع . مثالية الإدارة الحوثية : لئن كان الحوثيون يديرون صعدة والجوف وسفيان بتلك الطريقة الرائعة وذاك الأداء المتميز فإن ذلك يُحسب لهم لا عليهم والحقيقة يجب أن تُقال إتفقنا مع الحوثيين أو اختلفنا فما بين الحق والباطل سوى أربع أصابع : الحق أن تقول رأيت والباطل سمعت , وأنا قد رأيت وهذا يفرض عليَّ قول الحق والإعتراف بالحقيقة . وللتدليل أكثر فمنذ تولى الحوثيين إدارة صعدة : لم نسمع عن مظلوم فيها . لم نسمع عن عصابات سلب ونهب في حاراتها وطرقاتها الممتدة لمئات الكيلو مترات وليس في صعدة بل في كافة المناطق التي يسيطرون عليها . لم نسمع عن قمع ولا اعتداء ولا سرقة . يحيط اليمنيون ووسائل الإعلام علماً بما كانت عصابات الجوف تتمتع به من نفوذ وقوة وهيبة فالسيارة المسروقة في أيّ محافظة شمالية أو شرقية يمكن لصاحبها أن يجدها في الجوف مقابل دفع المبلغ المطلوب . منذ سيطرة الحوثيين على مناطق واسعة من الجوف لم يعد لهذه العصابات وجود فمنهم من قُضي عليه ومنهم من أقيم عليه الحدُّ , ومنهم من استقام وسلك , ومنهم من فرَّ بجلده إلى مناطق لا سيطرة فيها للحوثيين . أليس هذا محسوب للحوثيين وإدارتهم الناجحة ؟ الحوثيون في دماج : لم يكن تأسيس مركز سلفي في عقر الزيدية بريئاً من الإستهداف البتة , وليس هناك ما يبرره , - وهل تقبل منطقة سلفية وهابية بإنشاء مركز زيدي فيها ؟ - وقبول أبناء صعدة به وهم يعلمون نظرة السلفية لهم وحكمهم عليهم دليل تسامح وتعايش الزيدية مع غيرهم من الجماعات والمذاهب الإسلامية حتى ولو كانت السلفية التكفيرية , لكن الأمر قد صار واقعاً ولم يبق سوى الإحترام والقبول بالآخر . نظراً للقمع الذي واجهته الزيدية منذ ثورة سبتمبر التي استجلبت فكراً مدعوماً بالمال والسياسة لمقارعة الزيدية , ثم ازداد القمع ضراوة وعنفواناً خلال الحروب العبثية الظالمة على صعدة التي ألقت بظلالها على كل ما هو زيدي وله ارتباط بالزيدية , والآن تحاول أطراف النزاع شركاء الحروب الست ومسعروها خصوم اليوم التهرب من تلك الجريمة النكراء , فكل طرف يُلقي باللائمة على الآخر ويُحمِّله المسئولية وليس لأيٍّ منهما مهرب , كل تلك التداعيات أوهنت الزيدية , لكنها اليوم تستعيد عافيتها وتهبُّ من جحورها وتنتفض من مكامنها على الظلم والإقصاء والغبن الذي وقع عليها . لقد مثَّل الحوثيون بداية الصحوة الزيدية , ونقطة الإنطلاقة نحو استعادة الدور الريادي لصفوة المذاهب الإسلامية تسامحاً ووسطية واعتدالاً . لِيَقُلِ الإعلام وبؤر التعبئة والتحريض ما شاؤا من منكرات الزور والقول , فالحوثيون ورغم سيطرتهم على صعدة وقولهم الفصل فيها أثبتوا أنهم يحترمون التنوع والتعدد بدلالة مركز الضرار السلفي الذي تقوم عليه دنيا التكفير والتحريض المحلية والعربية ولا تقعد بمنابرها وإعلامها ودولها وأفواهها وصراخها وقنوتها , بينما لم يكن لها موقف من هلاك الحرث والنسل في محافظة بأسرها خلال الحروب الست العجاف بل كانوا أصحاب الفتوى والتحريض والتشويه والدعم والإباحة !!! الحرب الإعلامية التي تتحدث عن جرائم الحوثيين في دماج , ونصرة أهل السنة وفتاوى التكفير ودعوات القنوت تشبه في تهويلها وكذبها الحرب الإعلامية على سوريا . سؤال ومعادلة : تعرضت صعدة لست حروب عبثية لم تُحرك القوى الدينية في اليمن ساكناً أو يُوقظ ضميرها تجاه ما حدث من قتل وجرح وخراب وحصار ودمار لأكثر من 700 ألف مواطن واليوم يتبادر إلى الذهن سؤال عن حجم الساكنين في مركز الحديث من صعدة ؟ لربما لا يتعدون 2% من مجموع سكان صعدة , أما الرقم الذي تتداوله وسائل الإعلام للعدد فمبالغ فيه , إضافة إلى أن اغلب الساكنين ليسوا من صعدة وإنما من جنسيات عربية وإسلامية وأجنبية يكشف ذلك تداول وسائل الإعلام لعدد ممن سقطوا في المعارك وآخر ما قرأت : ليبي وفرنسي وأمريكي وجزائري يحاول اللاعب المحلي والإقليمي والدولي توطينهم في صعدة لحسابات عقائدية وأيديولوجية قذرة تشبه توطين السنة في البحرين لمواجهة الغالبية الشيعية . حين نتجاوز كل ذلك يجب علينا الإعتراف بالأمر الواقع لمركز الحديث السلفي بدماج والساكنين فيه وحقهم في العيش والسلام مع بقية أبناء صعدة وضمان حريتهم الدينية , لكنهم يجب عليهم الإعتراف بالأمر الواقع وبسيطرة الحوثيين على صعدة وتغيُّر الموازين والمعادلة وبدلاً من لغة التحريض والتعبئة والشحن واعتقاد التكفير والضلال عليهم أن يتعايشوا ليس من أجل الأمر الواقع فحسب ولكن الإسلام هو من ينادي بذلك فكيف وقد تغيرت المعادلة سياسياً ؟ ومن كان يؤمن بالله واليوم الىخر فليقل لأهل دار الحديث : إذا كنتم ترغبون في العيش بسلام فتخلوا عن التحريض والتآمر والسباب فقد تغيَّر الواقع ولم يعد لكم سوى استيعابه ما لم فما على الحوثيين ملام .