المهمة المحمدية : إن للنبي صلى الله عليه وآله وسلم مهمة خالدة أرسله الله تعالى بها لا يجهلها مسلم في هذا الكون وهي الهداية والإرشاد والتربية والتعليم والنصح وتطبيب النفوس وإقامة الحجة , والمقام لا يتسع للنقاش حول هذه المهمة فالكل يعرف حقيقتها وجوهر عدالتها وسمو مقصدها . لكن ما يحتاج إلى التوقف عنده ومناقشته هو الجبهة التي وقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها والتي حدَّدها القرآن الكريم : “ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ” . هنا نتوقف مع جبهة الإيمان والعدل والحرية والمساواة في موازاة جبهة الكفر والظلم والطغيان حيث يقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الجبهة الأولى ومعه أهله الأطهار وصحبه الأبرار وفي الطرف الآخر - الجبهة المناوئة - يقف أعداء الإسلام ومناوئوه أبو جهل وعتبة وشيبة وأضرابهما . اليوم وبعد مرور هذا الزمن الطويل من ارتضاع لبانة الإسلام وتشَرُّب أحكامه ومبادئه وقيمه وفي الوقت الذي نرى جبهة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورجاله قد خفت صوتها وحُصرت وضُيِّق الخناق من حولها لحساب الجبهة المناوئة التي التف حولها وبشراهة أعداء الدين وضعاف النفوس وأدعياء الإسلام وقاصموا عُراه والمتأثرون بشراك الغزو الفكري والطامعون في مكاسب الحياة وإن على حساب الدين وأحكامه والمجروفون بتيار الحداثة الداعي لعزل الدين وحصره : ألا يحق لنا التساؤل : لو اقتضت إرادة الله تعالى أن يأتينا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذا العصر فأين كان يذهب ؟ وأين كان يقف ؟ • هل كان يذهب إلى قصور الأمراء والزعماء والملوك والمتخمين لحضور مآدب الشرف والعزائم ؟ • هل كان يقف مع الظلمة والطغاة مادحاً لهم ومزيناً أفعالهم ؟ • هل كان يقف في معبد أو زاوية محاصراً نفسه متقوقعاً على حاله تاركاً أمته ذليلة خانعة مستعبدة ؟ • هل كان يقف خلف محراب يقرأ آيات اليأس والهزيمة والخنوع والاستسلام للواقع ؟ • هل كان يجلس في محل يبيع الدين ويتاجر به ويبرر أفعال الخونة والظالمين الفاسدين ؟ • هل كان يتخذ له مزرعة ومصيفاً يُصَيِّفُ تارة هنا ويستجم هو وعائلته تارة هناك ؟ • هل كان يقف خلف أعمال التجارة والاستثمار ليتاجر في أقوات الموحدين ويمتص دماءهم ؟ • هل… وهل …. وهل ….؟ بالتأكيد لن يفعل شيئاً من ذلك وحاشاه أن يفعل أو يُداني ويستكين ؟ إذاً فأين كان النبي صلى الله عليه وآله سيذهب ؟ • لا شك ولا ريب أنه ما كان سيذهب إلا إلى بيوت الصفيح والعشش الهالكة والآيلة للسقوط والتي لا يدفأ جلد ساكنيها في الشتاء ولا يسلم في الحر ولا يحتجب فيها من هطول المطر . • كان سيحمل نفسه باتجاه السجون والمعتقلات شاهراً سيفه في وجوه الجلادين انتصاراً لأنَّات المظلومين والمقهورين . • كان سيحمل سوطه ليُلهب به ظهور تجار الدين الذين يجعلون الآخرة مطية الدنيا, والذين يتسمنون بأقوات وأطعمة المسلمين , والناهبين للأراضي , والنافذين على حساب المستضعفين , والحكام الذين باعوا ضمائرهم ودينهم وهم يمثلونه في تجسيد مبادئ وقيم وأحكام الشريعة , والذين يبيعون أوطانهم ويزعمون الوطنية , الذين ملأوا الدنيا فساداً وعبثاً . • كان سيفزع من يتحدث عن الزهد وهو يلهث خلف الفِلَل والعمارات ويركب أفره السيارات , ومن يتحدثون عن الشهادة وهم في النعيم قابعون , ومن يتكلمون عن التقوى والورع وهم يأكلون أموال الناس ويتاجرون بأعراضهم وآلامهم وقضاياهم . • كان … وكان …. وكان …. لا شك ولا ريب أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لن يكون أبداً إلا في جبهته التي أسَّسها ومهمته التي بُعث من أجلها , جبهة العدل ضد الظلم , وراية الحرية في مواجهة الإقطاع والإذلال والارتهان والعمالة , وصوت الحق في وجه الطاغوت . وخلاصة القول : إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس جسداً يرقد في المدينة لكنه : موقف وشعار وراية وجبهة وصوت وحب وعدل ومساواة تحمل الإسلام وتدافع عنه . النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحقيقة رفيق الله وليس رفيق الظالمين , خصم من دان بالولاء للطاغوت أو سكت على المظالم , ضاع من أضاع منهجه وسقط من نكس رايته , وخاب من تخلى عن مبادئه . وهذه الشكوى إليك يا حبيب الله : • أمتك التي تركتها على المحجة البيضاء تعيش ألم النزاع والشقاق والصراع والخلاف والتمزق والشتات على الأهواء والمصالح والمكاسب والأمزجة وعلى الشريعة السهلة السمحة وعلى سعة الإسلام ورحمته . • أمتك استسلمت للشيطان فباعت الدين والأرض وفرَّطت في الحرمات والمقدسات وارتهنت لأعداء الدين . • هلك أبو لهب وبدلاً منه وُجِد ما لا يحصى من نماذج أبي لهب ظلماً وبغياً وجوراً وعدواناً . • قَتَلْتَ عتبة وشيبة وأمية بن خلف وعلى نفس الشاكلة حضرتنا هذه النماذج لكن باسم الإسلام يتاجرون بالأموال ويُشعلون العداوات ويزرعون الأشواك في طرق المؤمنين , و يستهينون بحرمات المستضعفين وحقوق المسلمين . • هلكت أم جميل وحضرتنا نماذجها طاعنات ومعترضات ومشككات في شريعتك وأحكامك . • أمتك أضاعت أرضها وخسرت فلسطين والعراق وأفغانستان والتالي في الطريق . • أمتك فرَّطت في دينها وهانت على نفسها ولو اطَّلعت على كرامة إنسانها في السجون ذكراً وأنثى لاستحضرت حياتها قبل مجيئك . يا رسول الله : • ذات يوم قلت لأصحابك : " كيف بكم إذا تداعت عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها " ؟ فاستغربوا واندهشوا وسألوك : أمِن قلة نحن يومئذ يا رسول الله ؟ فأجبتهم : " بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل " . ذلك حالنا يا رسول الله فالشرق والغرب قد تداعوا علينا كما تداعى الأكلة على القصعة فبعضنا يأكله الشرق وبعضنا يأكله الغرب وعددنا يفوق المليار والنصف لكن كغثاء السيل . • وذات يوم قلت لأصحابك: " كيف بكم إذا تركتم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؟ " فاستغرب الصحابة رضوان الله عليهم واندهشوا وسألوا مستنكرين ومتعجبين : أوَ يكون ذلك يا رسول الله ؟ فأجبتهم : " وأشد من ذلك , كيف بكم إذا رأيتم المنكر معروفاً والمعروف منكراً ؟ " فاستغربوا وسألوا مندهشين : أوَ يكون ذلك يا رسول الله ؟ فأجبتهم : " وأشد من ذلك , كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف ؟ " واليوم كل ذلك يا رسول الله هو حالنا ومنهاج حياتنا تغيَّرت المفاهيم وانعكست الأفكار: الجهاد وقول المعروف ومقاومة الظالمين والثورة على الطغيان والصرخة في وجوه الفاسدين صارت إرهاباً وتزمتاً وتحجُّراً وتعنتاً وغلواً وتطرفاً ووحشية . هناك من شوَّه الدين وأساء للشريعة : تطرفٌ وغلوٌ وتحجرٌ قاد إلى تكفير وتبديع و تفسيق وتضليل الموحدين , وأنتج قتلاً وانتحاراً للمسلمين في المساجد والشوارع ومقارِّ العمل والأسواق , وقتلاً بالهوية الطائفية والنزعات المتحجرة التي فاق استهدافها للأجانب حتى وصل إلى الموحدين والمصالح العامة , لكن هذه الأعمال الشنيعة التي يبرأ منها نهجك وشريعتك استُخدمت كذريعة لقمع الحقوق والحريات وشُوِّهَت بها صور المقاومة والجهاد وأباة الضيم .