كان علي أحمد باكثير في رواياته ومسرحياته ذات الطابع التاريخي يدرك إمكانية الوصول إلى جوهر التاريخ عبر الفن، بوصف أن ما تثيره خيالات الأدب عند القراء أكثر قدرة في الدخول إلى دقائق المواقف واللحظات التاريخية، وتتناسب وآفاق توقع القارئ العربي والمسلم في استشعار ماضيه، والإحساس بذاته، ولا تقتضي منه مشقة كبيرة في الفهم ، مما يصبح معه تفاعله مع ذلك النمط من الكتابة ذات الطابع التاريخي واسعا. إن التدوين يعني مضي التاريخ بكتابته من حيث كونه نصا، غير أن توظيف التاريخ في الفن يعني تجديد طاقته وحياته ، فتظهر الشخصيات والأحداث كما لو كانت بكامل حيويتها وحياتها ، ومن خلال ذلك الفعل الأدبي المشخص تنشط في مخيال المتلقي مفارقة حادة بين واقعه المعيش ومجده في الماضي ، فمعرفة التاريخ بالأدب أبعد غورا من قراءة التاريخ نفسه بالنسبة لقارئ الأدب لا المؤرخ المختص الباحث عن الحقائق الصرف. وعليه فالمادة التاريخية التي لجأ إليها باكثير ووظفها في كثير من نصوصه جزء لا يتجزأ من تكوين تلك النصوص، جزء فني يقوم بوظيفة أبعد من الحقائق التاريخية مادام يعتمد الإيحاء والإثارة والتنبؤ، وذلك ما قدم باكثير كاتبا معاصرا ومستقبليا أكثر من كونه كاتبا تاريخيا ، إذ قرأ التاريخ بوصفه نصا محفزا فتح لتأملاته الفنية والفكرية ألف عين ، وزاد من فاعليته الحدسية ، فكتاباته بذلك أقرب إلى الحاضر والمستقبل منها إلى وجودها التاريخي ، وذلك هو التوظيف الأدبي الحي للتاريخ ، يرسم مغازيه رسما فنيا يكثفه ويعمقه ويبعده عن كونه أحداثا مسطرة فيملؤه بالدراما والتكثيف وبحركة الأحداث والشخوص متخلصا من حشو التدوين التاريخي وزوائده وفضفضته بحيث تغدو لكل نص من نصوصه أهميته الخاصة لولادته متجاوبا ، تفاعلا ونقدا ، مع كثير من قضايا العصر الراهن على المستوى السياسي والاجتماعي والديني من سلامة القس إلى الثائر الأحمر إلى وا إسلاماه إلى ملحمة عمر .. إلى غير ذلك ، فكتاباته مترابطة بقضايا العصر أكثر من ترابطها بوقائع التاريخ المتباعدة من العصر الإسلامي إلى العصر العباسي إلى عهد المماليك. لقد أخذ باكثير من التاريخ التصورات الكبرى وأضفى عليها تفصيلات خصوصية من نتاج خياله ، وقدراته الكتابية والتأملية ، فليس ثمة تطابق حرفي بين ما في رواياته ومسرحياته من جهة والتاريخ من جهة أخرى إلا من حيث المقاربة العامة مادامت الكتابة تأخذ لديه شكلا عصريا جديدا ، ومادام المغزى يتحرك - تبعا لذلك - بعمق شعوري وعقلي ، واللغة تتحرك بعيدا عن آلية الكتابة الإخبارية . وبفعل تلك الحركة الفنية في الكتابة التي عمل باكثير عليها كثيرا تتحول إشارات التاريخ - وقد حرر أبعادها بالفن - إلى نص فني لا يستدعي الوقوف عنه ، وإنما التفاعل معه كما لو كان جزءا من الحياة المعاصرة والتاريخ في تشكيل جديد. إن المزج بين التاريخ والأدب يجعل تأثير الأدب أكثر حضورا، ذلك لأن محتوى التاريخ قد قرئ آلاف المرات وعلى مدى مئات السنين ، فغدا لذلك صدى المعاني الأدبية مؤثرا لارتباطه بالوجدان الجمعي للأمة ، ويبدو هذا التأثير أكثر حضورا لاسيما أن الأمة تعاني من خور وتراجع في حاضرها ، فالوجدان الجمعي متصل بحيثيات الماضي والحاضر نجاحا وإخفاقا ، والمفارقة الحادة التي تعيشها الأمة في كيانها الداخلي تجعل استشعارها لمعاني الأدب ذي الطابع التاريخي يمتاز بالتجاوب وشدة الهزة، ولهذا كانت الجماهير تقبل في منتصف القرن الماضي على مشاهدة مسرحيات باكثير بشكل جارف، وانطلاقا من هذا السبب - في ما يبدو - حاربته بعض الاتجاهات الإيديولوجية المناوئة مادام يثير انفعالات واستبصارات مرتبطة بالسيكولوجية العامة ( التكوينية ) للأمة، وربما من هذا المنطلق خشي أصحاب الاتجاهات الجديدة من التأثير سلبيا على حضورهم الأدبي، لاسيما أن كتاباته على تلك الشاكلة عدت مؤشرا للتأسيس لقيم مسقبلية في المجتمع لها أصولها المتجذرة في التاريخ ، وكان باكثير نفسه يستشعر ذلك من خلال تعبيره عن إيمانه بأن الأجيال القادمة ستلتفت إلى أعماله وتهتم بها ، غير أن الأجيال القادمة لن تلتفت إلى أعمال باكثير إلا في إطار الصراع القائم بينها وبين جماعات مناوئة لها ، أعني في إطار حدوث انزياحات تجديدية في التاريخ ، تحاول أن تفرض نفسها في أثناء دوراته المتعاقبة . وفي هذا السياق لا يبرز دور الأدب التاريخي من تلقاء ذاته أو من طبيعة التكوين الذي يقتضيه تاريخ الأمة بإضاءاته الرائعة انطلاقا من مقولات التاريخ المجردة، وإنما من وقائع الصراع المعاصرة مع تيارات مختلفة ليبرالية وعلمانية وأخيرا حداثية، حتى لو افترضنا جدلا أن الصراع انتهى أو توقف لصمتت كثير من التيارات الكتابية ذات النزعة التاريخية الأصولية، ذلك أن وهج الحضارة انطفأ فانتقل من واقع التأسيس وبث وجوده الواسع ماضيا، إلى واقع الدفاع والتبصير الآن ، فهو في الحقيقة واقع أدبي مدفوع بضده أو بالمستجدات المعاصرة، ومعلوم جدا أن كتابات باكثير نشطت من جراء ازدياد الدور الفكري والسياسي للحركة الصهيونية ونشاطها في احتلال فلسطين. إن تلك الكتابات مرهونة بمرآة الآخر المختلف ، فوجودها مرتبط بحالة مركبة من الأحداث المعاصرة سياسيا وفكريا وثقافيا ، حتى لو فاخرت بأصولها التاريخية – وحق لها ذلك - فالآخر هو ما يستدعي حضورها ، مستفيدة أحيانا من إنجازاته في مناحي الشكل ، وإن لم يبرز هذا إلا بصورة محدودة عند عدد من الأدباء الملتزمين كأديبنا الكبير يعدون بأصابع اليد الواحدة ، وإن كانت الكتابة عن المعلوم والمؤسس بحاجة إلى طرائق فنية أشد تجديدا حتى يبدو مدهشا ومثيرا بجدته الشكلية من حيث البناء والتشكيل ، لكن هذا لا يمكن أن يتأتى والنظر إلى الآخر في طرائقه وأساليبه الفنية يكون مشوبا غالبا بكثير من نظرات الحذر والتوجس ، فضلا عن أن منهجية الحفاظ على أصولية المعلوم والراسخ يمنع من إحداث تجاوزات فنية حرة وكبيرة ، وربما لهذا السبب تخلى علي باكثير عن نزعته التجديدية الرائدة في الشعر القائم على انطلاق الذات وفضائها ، وكان يمكنه أن يسير بتجربته البكر هذه إلى آخر الشوط وهو شاعر أصلا قبل أن يكون كاتبا مسرحيا وروائيا ، وقد وعى في أثناء دراسته كثيرا من طرائق الأدب الانجليزي وإفادته من الرموز الأسطورية كما عند إليوت تاركا المجال لشعراء آخرين تبنوا دوره فيما بعد ، منصرفا إلى رغبته في تبصير الجماهير تبصيرا عمليا مباشرا. لعل باكثير رأى أنه يماثل بكتاباته تلك لحظته التاريخية في ذلك الوقت من زمن النهضة العربية منتصف القرن الماضي، وأن الأنسب التعبير عنها بمثل تلك الشاكلة التي اتخذها من الكتابة الأدبية ذات الطابع التاريخي التي أضاءت كثيرا، وما تزال تعد بضوء كبير. هذه مجرد إشارة فاتحة ، وثمة كتابات متنوعة عميقة يحويها هذا العدد بأقلام نخبة من الكتاب نسعد ونعتز بإسهامهم بالكتابة من داخل اليمن وخارجه احتفاء بالذكرى المئوية الأولى لميلاد باكثير ( 1910 – 2010م ) وقد حرصنا على أن يصدر هذا العدد ( 4 – 5 ) مزدوجا ليضم أكبر قدر من تلكم الكتابات التي استقبلها بريد المجلة باحتفاء كبير . لافتين القراء إلى أن المجلة أخذت منذ هذا العدد شكلا آخر في إخراجها.