بقلم، القيادية اليسارية / نبيلة الزبير .. الشعب يريد4 مكاشفة 1 ثورات الربيع العربي كلها بلا مشروع رغم أنها حدثت وفقا لقانون الحتمية. لم يكن الثوار، وكذلك النخب، جاهزين للقيادة فيما كانت التيارات الإسلامية على اختلاف مسمياتها جاهزة على نحو ما. منها من اتصل نضاله منذ الأربعينيات، فلم تكن هذه الفرصة لتفوته وهي لحظة تاريخية بامتياز. التيار الإسلامي في اليمن (الإصلاح تحديدا) ليس لديه مشروع لكنه يصنف كنظرائه في البلدان العربية والاسلامية تحت نفس الأيدلوجيا المرتكزة أساسا على العقيدة. وهذه تعني الإيمان. والجماعة التي تتأسس على الإيمان هي أبعد ما تكون عن المشروع، لكن ذلك ليس مستبعدا على الأقل في تريتب ما من تراتب هذا الحزب أو ذاك. أقول "تراتب" دون تحفظ كبير، ذلك أن مثل هذه الجماعات وإن انخرطت في أحزاب إلا أنها تتأسس على التراتب وتؤسس له. حزب اللإصلاح وهو الأكثر تنظيما بالتأكيد كما هو أكثر انتشارا وشعبوية، كان الأسرع لتحمل عبء القيادة ورأى في نفسه أنه الأجدر لكن للأسف قاد بالاتجاه الخطأ وحتى بالطريقة الخطأ (انفراد واقصاء وسيطرة وتهميش.. الخ) حتى بما يضر بالحزب نفسه كتنظيم. إذ أن فيه شُعبا عديدة، لنقل أنها تيارات داخل التيار الواحد "المحافظ" سيطر منها القبلي والعسكري، (ومعهما الديني وإن كان صوته يعلو وينخفض بحسب الحاجة) وقاد وفقا لحسابات ليست بالضرورة حساب الحزب كوحدة تنظيمية. 2 ثلاثة محددات أخلت بتوازن القوى في حزب الإصلاح نفسه: المال، السلاح، القبيلة. بانشقاق محسن وبحرب الحصبة ومن بعدها نهم وأرحب، اتسعت الدائرة ليصبح اختلال القوى هو داخل "المشترك" ثم داخل الثورة وقد أصبح ما يسمى بالمكونات الثورية هم القادة. هذا هو التحول الفارق (الماحق) الذي نقل هؤلاء من منضمين للثورة إلى منظمين وقواد. على أن الحاصل لكل هذا في النتيجة هو أن لم يعد هنالك قيادة ولا تنظيم للثورة. ورأينا كيف سارت الأمور إلى هذه اللحظة.. رأينا كيف سارت الثورة (أي الشباب والشعب) في طريق، فيما القيادات (المجلس الوطني) في طريق آخر. مهم التنويه أن المجلس الوطني ليس كل من فيه هم قيادة ثورة. إذ المجلس نفسه يقاد بنفس الطريقة وتهيمن عليه نفس المحددات التي أخلت بقوى حزب الإصلاح ثم بقوى اللقاء المشترك. فالمجلس له رئيس مسمى لكن ليس هو بالضرورة من يقرر ويدير. وصورة حضور المجلس لا تختلف كثيرا عن صورته غائبا. أي أنه حاضر ويتصدر القرارات إذا ما شاء بضعة أشخاص أن يصدروا عبره قراراتهم كما حدث وأعلن أنه الطرف الموقع للمبادرة مواجهة صالح، فيما هو على الأرض عبارة عن "موجود" أصم وأبكم. لم يحدث أن اجتمع أعضاؤه لاتخاذ قرار التوقيع من عدمه. ولن يشكل ذلك عند الأعضاء حدثا يعترضون عليه، اللهم عضو واحد نشر بيان نفي (عبر الفيس بوك) عن أن يكون المجلس هو صاحب قرار التوقيع على المبادرة وأنه لم يُطرح مشروع قرار كهذا في المجلس من أساسه. الطبيعي أنه إن لم يكن للأعضاء إعتراض على القرار، أي أنهم يؤيدونه بالإجماع، فكان لهم أن يعترضوا على عدم إشراكهم في مناقشة واتخاذ قرار بهذه الأهمية. لكن المجلس من الخفة بمكان لا فرق إن سُؤل أعضاؤه في شأن قرار قد تنسب إليهم مسؤوليته، أم لم يُسألوا. قيادة المجلس هي كل شيء وليس المقصود بالقيادة هنا القيادة المعلنة رسميا بل القيادة المهيمنة فعليا. هذا بالضبط ما أُريدَ للثورة أن تكون عليه: ثورة هي تلك التي في الساحات وقيادة متخفية وراء اللجان. لكن الثورة مشت أبعد من ذلك. 3 كثيرا ما ردد الثوار/ات ألا قيادة لهم ولا قائد سوى الهدف. والهدف هو اسقاط النظام وإرساء الأسس لدولة مدنية حديثة. وهذا الترداد هو لينفوا عن أنفسهم أنهم مسيرون من قبل قوى انقلابية. لكن الغاية الأهم من هذا هي: ليميز الثائر نفسه وزملاءه عمن عداهم من الملتحقين بالثورة لأطماع ومكاسب آنية. نجح هذا التمييز مؤخرا وحدث التمايز. وأصبح على من نصبوا أنفسهم قادة للثورة أن يغادروها مرتين، مرة لأنهم حققوا هدفهم بإزاحة صالح، ومرة لأنهم بشراكتهم في حكومة الوفاق أصبحوا جزء من الحكم بما يعني أنه انحسرت أماكنهم في المعارضة، ينسحب على ذلك مكانهم في الثورة. يبدو أنهم تفهموا هذا المتغير الجوهري فغادروا الثورة. (في صنعاء توقفوا عن مد الساحة بالطعام) لكن ذلك لم يدم إلا بضعة أيام. سرعان ما تنبهوا إلى أهمية أماكنهم المتخفية وراء اللجان. فالثورة التي أوصلتهم إلى مقاعد في الحكومة هي وحدها الضامن ل"جلوسهم" في هذه المقاعد ولإمكان فاعليتهم عبرها إن أرادوا أن يكونوا فاعلين. لكن السبب الأهم لتشبهم بقياد الثورة هو أنهم لا يستطيعون تحمل كامل المسؤولية التاريخية عن خطوتهم التي بدا وكأنهم مضوا فيها صاغرين أو مرغمين بتوقيعهم المبادرة قبالة حاكم لم يتنح بعد وقد لا يتنحى، وبجيش لم تتم هيكلته بعد وإن تمت فغير واضح إلى الآن كيف ولا إلى أين. فالثورة هي الكفيل الوحيد الذي يحدد مسار المبادرة فلا ينحرف بها باتجاه يخدم الحاكم ضدا على مصلحة البلاد. فيما قبل كان لدينا في قيادة الثورة معارضة تشرأب أعناقها إلى مقاعد في الحكومة، ليس بالضرورة لطمع شخصي. قد تكون نيتها حسنة ورؤيتها هي التي ليست حسنة وهي تجزم ألا تغيير إلا من داخل مقاعد الوفاق. أقول: فيما قبل كنا نسمي هذه المعارضة "قوى تقليدية" ونصفها بأنها جزء لا يتجزأ من النظام الذي نريد تغييره لا فرق إلا أن أشخاص النظام الذين في الحكم لديهم ملفات فساد وجنايات يحاكمون عليها فيما الذين في المعارضة لن تحاكم عناصرها إلا حسبما يجد من وثائق تثبت شراكة أو تورطا ما في جرم الحكام، أو جرم سكت عنه الحكام لأسباب تعنيهم. اليوم أصبح هذا الجزء من النظام جزء من حكومته كذلك. هل يمكن أن يقود هذا الجزء من الحكومة ثورتنا؟ لا أظن ذلك ممكنا اليوم. ليس لأننا سنرفض وسيجدي رفضنا. وليس لأن النظام أو الحكم سيتدخل ليمنعه بسبب أنه أصبح جزء من طاقمه الحاكم، لم يحدث أن تدخل النظام لمنع جزء منه من الانخراط في صفوفنا، بل العكس حدث أن دفع بكثير منهم باتجاهنا، هذا بالإضافة إلى من دفع بنفسه بوصفه نظاما "داعما" للثورة من هؤلاء من هم من البيت الحاكم. يحي صالح مثلا كانت له خيام ويد ممدودة لشباب يعتصم في الساحة! يا الله كم اتسعت ساحتنا لذوي الخبرة في القيادة والتسيير الميدانيين. ومع ذلك لم يعد أحد من هؤلاء أو أولئك يصلح لقيادة الثورة. 4 ليس من اليوم بل منذ شهور، من قبل توقيع المبادرة، خلت الثورة من قيادة. لم يكن هنالك من قيادة فعلية سوى لشخص واحد، إن جاز أن أسميه شخصا (وسأقول لكم/ن لاحقا لماذا أسميه شخصا) هذا الشخص اسمه "الاختلال". الكلام هنا عن الاختلال لكن ليس في موازين القوى وإن كان الأخير حاضرا بقوة لكن كواحد من الأسباب. الاختلال الذي أعنيه هنا والذي هو ناتج عن أسباب كثيرة، هو ببساطة: اختلال في المضامين الثورية, اختلال في القيم والمفهومات. الأمثلة كثيرة ويصعب حصرها، لكن لابد من ذكر البعض منها لتتضح صورة ما أعنيه: مثلا: كيف تقول أن ثوورتك سلمية وفي الوقت نفسه تسكت عن "قيادة" عسكري مسلح لثورتك، ناهيك عن أن علاقة هذا العسكري برئيس البلاد الذي تريد أن تخلعه هي علاقة خصومة وعدوان شخصيين. ومثلا: كثير من الناس الذين علقت أبصارهم بثورتك أملا بالتغيير، البسطاء والفقراء منهم قبل التجار والأغنياء تدافعوا رجالا ونساء يتبرعون بالمال للثورة، في شهور قليلة كانت عندك مليارات كيف قبلت أن يتسلم شؤونك المالية ملياردير وأن يصبح جيبه هو الصندوق الذي ينفق على ثورتك. ناهيك عن أن علاقة هذا الملياردير بالأسرة الحاكمة هي علاقة تنافس وتحد سافرين. ثم كيف ترفع شعار محاكمة الفاسدين إذا كنت لم تكترث لمحاسبة لجنة مالية داخل ثورتك ولم تحرص على استقلالك اقتصاديا، والاستقلال الاقتصادي كما هو معلوم هو أهم مقومات الكرامة وهذه المرة هي كرامة ثورة. بل لقد جعلك هذا الملياردير تغير اسم رئيس البلاد، لقبه الرسمي الذي عرف به لثلاثة عقود "صالح" و"الأحمر" وهو الاسم الذي كان ينبغي لك كثائر ملتزم بأخلاق الثورة أن تخاطبه به حتى بعد تنحيه لأن العلاقة به هي علاقة "حق" نفرضه عليه لا علاقة عداوة نبحث فيها عن مسبات ووصمات عرقية. كيف تبنيت خطاب الملياردير في تمايزه الطبقي ومحاولة اثبات فوقية نسبه على نسب الخصم، خصمه طبعا لكنك جسدت خصوماته وعبرت عنها. على أن ثورات الشعوب من مبادئها العادلة إذابة الفوارق بين الطبقات. كيف قبلت أن ينضم إليك فاسدون ثبت فسادهم في مختلف المجالات؟ وتبنيت المنطق العجيب القائل: "مش وقت، الآن نسقط الرئيس ونحاسبه ثم سنحاسب الفاسدين المنضمين للثورة؟ افترض أنه حدث وأنت متجه للصلاة أن وقعت على ثوبك بقعة دنس هل ستزيلها بماء متسخ؟ أم ستواصل طريقك للصلاة وتصلي بثوب دنس؟ هل صلاتك جائزة؟ هذه المغالطة غير المقبولة في الصلاة هي كذلك غير مقبولة في الثورة ولقد أفقدتك اعتراف الكثير من الفئة الصامتة بثورتك كما ضاعفت أعداد الفئة المناصرة. فكيف صرفت نظرك عن الشعب الذين هم منك وانت منهم والذي تقول أنك تثور من أجله؟ إنه نفس منطق الحاكم الذي تريد أن تغيره ونفس سلوكه عندما يقول أنه يعمل من أجلك فيما يصرف نظره عنك ويكتفي باسترضاء حفنة من النافذين والذين أصبح معظمهم قائدا لثورتك. مهم أن أنوه هنا أنني لا أتكلم عن أخطاء اقترفناها في الثورة بل عن مضامين وقيم تحدت قيمنا وأخلاقنا الثورية الرائعة وتداخلت بها لتحدث هذا الاختلال. فلا نحن قبلنا بمنطق وأسلوب المعارضة التي كانت قيادتنا وسارت بنا إلى المبادرة وعندها فقط رفعنا صوتنا بالرفض. (لاحظوا/ن أن ما رفضناه هو النتيجة على أننا لم نكن لنصل إلى هذه النتيجة لو أننا رفضنا الطرق والأساليب التي أفضت بنا إليها) ولا نحن فرضنا منطقنا وأسلوبنا الثوريين. 5 لكن هل حقا كان لنا منطق وأسلوب ثوريان. نعم كان لنا وأجزم لكن سلمنا بما قيل لنا والذي مفاده: أن اليمن غير. وفهمنا المعنى لمقولة أن اليمن غير بأن نتعامل مع من يسمون بالمكونات الاجتماعية وفقا لأساليبهم هم. الأصح أنهم مكونات "إدارة صالح" بدرجة أساسية التي خضع فيها هو الآخر لقانون الغاب في التعامل مع هذه المكونات والتحايل عليها. خاف أن يواجههم كما فعل الحمدي كي لا ينتهي نفس نهايته بالقتل ثم أن طريقة تولي الحمدي للحكم أهلته للمواجهة فيما صالح صعد للسلطة وفقا لمبدأ تقاسم الحكم بوصفه غنيمة غير مشروعة فتقاسم بالضرورة البلاد والثروات وحتى حق إصدار القوانين وتعديلات الدستور بما يناسب مصالح شركاء الباطل والذين سيسمنون مع الوقت ليصبح اسمهم كما اليوم مكونات اجتماعية. وإذا كان لصالح ما يخيفه من انتصار الثورة فإن لهؤلاء نفس خوفه إلم يكن بنفس المقدار فيكفي أنه بنفس الأسباب والدوافع: خوف من انهيار النظام الذي كفل لهم سلطات لا تخضعهم لقانون ووهيأ لهم تراتبية اجتماعية يصعب التنازل عنها. كان علينا أن نتعامل مع هذه المكونات لكن بمنطق ثوري لا بالمنطق الذي نهجه صالح وكلفنا الكثير طيلة عقود، وحتى حين جاء الوقت لتصبح الكلفة عليه هو، تغيرت المعادلة لنكون نحن المتضررين أولا وأخيرا. 6 نعم اليمن غير، وليست تونس وليست مصر. لكن ذلك لا يعني أننا أقل من غيرنا. وهذه فرصة لأوصل لكم الأمانة التي حملتها في كثير من سفرياتي وحتى من بريدي بأناس من مختلف بقاع العالم: العالم كله مأخوذ بثورة اليمن بصبر وصمود وقوة شباب وشعب اليمن كم من المحاولات، محلية وإقليمة، لإجهاض ثورته. وكم استدرج للقتال ولم يقاتل وللبيع ولم يبع وللرجوع ولم يرجع. نعم نحن لسنا تونس ولا مصر لكن من قال أن ذلك يعني أننا أقل من هذه أو تلك. ربما كل القضية أننا كنا طيبين أكثر من اللازم، وكرماء أكثر من اللازم، ولا نحمل حقدا "خلاقا" ولا غضبا عاصفا حتى بجلادينا. كما إن القضية هي في الطرق التي قبلنا السير فيها إلى غاية اتضح فيما بعد أنها كانت غاية من قادنا لا غايتنا. فهل آن أن تكون لنا قيادة منا، تسير بنا وبكل وضوح إلى أهدافنا نحن..؟ لكم الإجابة وليس صحيحا أنه فات الوقت. وعدت في منتصف هذا المقال أن أوضح: لماذا سميت " اختلال المضامين " شخصا.. لأنه في الواقع هو من صافحه صالح وشد على يده، بعدما كان قد رفع كلتا يديه مسلما بالنهاية تحت إرادة شعب. فكان الشخص الذي عقد عليه أمانيه وتهربه لأشهر طويلة من استحقاقات الثورة. ولا يزال يعلق عليه آمالا. فهل لنا أن نستدرك. أكرر: ليس في ثورة بعظمة ثورتنا شيء اسمه فات الوقت. فلنبدأ الآن.