بدون مقدمات ، ومن غير الحاجةِ للعودةِ إلى مواد الدستور والقوانين النافذة المؤكدة على النظام الديمقراطي – التعددي ، التي صاغتها وأقرتها ذات الأحزاب – وبالأصح مراكز القوى – التي تتناطح اليوم على رؤؤس البسطاء ، في سبيل استمرار طواحينها الرهيبة التي لا ترحم في سحق حقوق وتطلعات وأماني هذا الشعب الصبور .. أقولُ إن " مراكز القوى المتنفذة هذه " تَنْحَرُ " اليومَ وللمرةِ الرابعةِ دستور دولة الوحدة والتجربةُ الديمقراطية ، حفاظاً على مصالحها السلطوية المكتسبة في الدولة ، وعلى مراكز نفوذها الديني والاجتماعي ومكاسبها المالية والتجارية غير المشروعة ، وإذا كانت مراسم الذبح الثلاث السابقة ، قد تمتْ بمهرجانات محلية خالصة وعلى مسالخ " العصبيات القبلية والمذهبية والمناطقية والحزبية الضيقة " فإن ما ُيمَيزُ هذا الذبح الأخير إنه تم أولاً :على الطريقةِ المتأسلمةِ الإخوانية العالمية ، وعلى مَسْلَخ الفوضى الخلاقة ثانياً ، وبرعايةٍ ومباركةٍ ورقابةٍ ومساهمةٍ جادةٍ دولية وإقليمية وعربية ثالثاً !!، بما يعني إكسابِ هذا الذبحِ والذباحين معاً " الشرعية العربية - الدولية !!" التي سبق أن أعطيت لذابحي العراق وليبيا ، ويجري منحها لذات الشاكلة من " الذباحين " في أقطارٍ عربية أخرى وفي المُقدمة منها سوريا الشقيقة ، تحقيقاً لشعار " شامنا ويمننا " الذي رُفع في الساحتين خلال الأشهر السابقة !!؟. لقد ذُبحَ الدستور ، ونُحرَتَ الديمقراطية في المرةِ الأولى في مايو/ حزيران 1993م ، عندما رفض البعض ما سُميَ حينها " بالأغلبية العددية !!" وأدى ذلك الفهم الغريب والعجيب للديمقراطية ، إلى اختلاف قوى التحديث التي حققت الوحدة ، وانزلاقها للتسابق على استرضاء القوى التقليدية بهدف الاستقواء بها على بعضهم البعض ، لتعود – بعد أن كادت تتخندق بالمعارضة - أكثر قوة وتمكناً ، ولتفرض شروطها على الجميع باعتماد " التقاسم والمحاصصة الثلاثية " للسلطة على حساب المبدأ والنهج الديمقراطي التعددي !! ، لتبقى السلطة بدون معارضة حقيقية مؤثرة تراقب أدائها ، فانشغلت وتفرغت أحزاب السلطة الثلاثة الرئيسية تقودهم مراكز النفوذ التقليدية بصراعٍ بيني مُستميت على مغانم ومفاصل الدولة ، ليستحوذ كلٍ من موقعه على أكبر قدرٍ ممكن من المكاسبِ لحزبه وربعه ، لقناعة كلٍ منهم بمرحلية ذلك " التقاسم " الذي مثل خُروجاً صريحاً عن القانون والدستور ، فكان الثمن كما رأينا – وفي أقل من عامٍ واحد - حرب الردة والانفصال صيف 1994م ، التي كادت أن تُكلفنا أعظم مكاسب شعبنا التاريخية " إعادة تحقيق الوحدة المباركة " وكلفت اليمن واليمنيين ما لا يُعَوض من الدماء والشهداء والمعوقين والثكالى والأيتام ، إلى جانب الخسائر الاقتصادية والتنموية الهائلة لبلدٍ فقيرٍ شحيح الموارد !؟. ثم كان " النحر الثاني " للدستور وللمستقبل الديمقراطي – التعددي بتاريخ 28سبتمبر1994م ، عندما استغلت القوى التقليدية فرصة الفراغ الكبير ، الذي تركه الحزب الاشتراكي اليمني كشريكٍ في الحكم وفي الواقع السياسي عقب حرب الردة والانفصال ، فتجمعت من جديد وهي أكثرُ قوةٍ مما سبق لكونها شريكٌ في السلطة ، لتفرضَ شروطها لتعديل دستور دولة الوحدة ، الذي سبق وأن أقرته كل أطياف العمل السياسي وأُستُفْتي عليه شعبياً ، والذي كانت هذه القوى التقليدية قد رفضته وعارضته منذ الوهلة الأولى ، لتنال مبتغاها بكل بساطة ، ولتتربع على رأسِ تقاسمٌ ثنائي جديد للسلطة بكل مكوناتها ، على حساب المنهج الديمقراطي وأحكام الدستور ، من خلال حكومة 6 أكتوبر1994م ، لتبقى الساحة أيضاً بدون معارضةٍ حقيقيةٍ فاعلةٍ ، فَعَم في تلك الفترة الفساد وانتشر فيروسه المُدمر أفقياً وعمودياً ، ليشمل لأول مرة في تاريخ اليمن ، كل مرافق ومؤسسات الدولة بقطاعاتها العام والمختلط والتعاوني ، وبمستوياتها الإدارية والوظيفية المختلفة ، ليُصْبح الفساد هو القاعدة وما عداهُ الاستثناء ، حيثُ صُفي الجهاز الإداري للدولة ومؤسساتها – من مستوى مدير إدارة فما فوق – من كل من ينتمي لغير حزبي " المؤتمر والإصلاح " لتحل محلهم كوادر من الحزبين المذكورين ، ولم تسلم من فساد تلك الحقبة حتى مؤسسات التعليم الجامعي والعالي ، الذي كانت تُمنحُ فيها شهادات " البكالوريوس والليسانس والدكتوراه " لدارسي الكتاتيب وحلقات الدرس في الجوامع ومنازل بعض الفقهاء ، وفق " مُعادلات " مضحكة تعتمد على توصيات وتزكيات فقهاء دين لا يحملون أية شهادات علمية !!؟ ، وكل الهدف الرواتب والدرجات الوظيفية !؟ أما شهادات المراحل الأساسية فحدث ولا حرج !؟ ، عوضاً عن البزوغ المُفاجىء والمُذهل لعشرات " المليارديرات " من أبناء المسؤؤلين الذين هيمنوا على الموارد السيادية وعلى الحركة التجارية والاستثمارية في البلد ، واحتكروا منافذهما الداخلية والخارجية بالمخالفة للنصوص الدستورية والقانونية التي تُحرم على المسؤؤلين وأقاربهم من الدرجة الأولى الاشتغال بالتجارة !! ، وتفننوا في استنزاف موارد الدولة ، والقضاء على استثمارات رأس المال الوطني ..الخ ، حتى قادتنا تلك الحقبة المُظلمة من تاريخ دولة الوحدة ، إلى أزمةٍ اقتصاديةٍ خانقةٍ ، و إلى تراكم ديونٍ خارجيةٍ مُثْقِلة تحملتها الدولة ، استدعت في مجملها تدخل البنك الدولي بشروطهِ المجحفةِ ، وإلى اضطرارِ الدولةِ لقبول برنامج الإصلاح الاقتصادي والمالي والإداري المفروض من قبل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ، وتبني الحكومة اليمنية لذلك البرنامج المُجحف بصفة رسمية ومعلنة بتاريخ 29 مارس/آذار 1995م ، بكل ما جلبه من معاناة وضنك وألم وتجويعٍ وبطالة لشعبنا ، وضُعفٍ واستكانةٍ وخضوعٍ لبلادنا ، وتفريطٍ مُلفتٍ بالقرار السيادي !! ، وكان طبيعياً أن يقود ذلك الخروج عن المسار الديمقراطي التعددي – بكل نتائجه الذكورة - إلى بروزِ صراعِ حادٍ وحقيقي بين أركان الحكم حينها على ما آلت إليه الأوضاع من تردٍ وانحدار على كافة الأصعدة وفي كل المجالات ، وقد عَبرِ ذلك الصراع عن نفسه – مُداراةً لحقيقة ما ذُكر أعلاه - بالخلاف الحاد الذي برز إلى العلن بين الجانبين على وضع المعاهد العلمية ، (التي كانت تُمثل إحدى كُبريات الفساد في تلك الفترة) ، وكان يُهيْمنُ عليها حزب الإصلاح ( الإخوان المسلمين ) ، الذي وضع حينها كل ثقله ووظف كل إمكانياته وعلاقاته الوطنية والعربية والدولية لكسب ذلك الصراع ، لأنه كان يعتبر تلك المعاهد مصنع التفريخ الأول لكوادر الحركة وطنياً وعربياً ودولياً ، عوضاً عن ما كانت تمثله الميزانية المالية الضخمة للمعاهد العلمية ، من مصدرٍ هامٍ وأساسي لتمويل أنشطة الحركة التنظيمية والفكرية والإعلامية !! ، ولكن الحزب خسر تلك المعركة بنهاية المطاف ، بقرار مجلس الوزراء المؤرخ 4 ديسمبر1995م ، القاضي بتوحيد المناهج الدراسية للمرحلة الأساسية ، وبضم المعاهد إلى الهيكلية الإدارية لوزارة التربية والتعليم ، فمثلت تلك الخسارة الثقيلة ، ضربةٍ موجعةٍ ونكسةٍ حقيقيةٍ للإستراتيجية التنظيمية لحركة الأخوان المسلمين ، ليس في اليمن فحسب وإنما أيضاً في العالم العربي والعالم ، حيث كانت المعاهد تستقطب طلاب الحركة من مختلف البلدان ، وكانت إحدى البوابات الرئيسية " لجامعة الإيمان " .. فكانت الهزيمة الموجعة تلك الشعرة التي قََصَمَتْ ظهر " التقاسم الثنائي الثاني " ، وقادت إلى نتائج انتخابات 27 أبريل 1997م النيابية ، التي إنفراد بعدها المؤتمر الشعبي العام بالتشكيل الوزاري ، وخروج ممثلي حزب الإصلاح ( الإخوان المسلمين ) من ذلك التشكيل لأول مرة ، محتفظين بقوة تأثيرهم في مختلف مفاصل الدولة التي كونوها خلال فترتي التقاسم " الثلاثي ثم الثنائي " ، إضافةً إلى تأثيرهم المعروف في الواقع الاجتماعي – القبلي ، الذي كان يمثلهُ المرحوم الشيخ / عبدالله بن حسين الأحمر ، ومن ثم تحركوا – لأول مرة - من خارج تشكيلات السلطة للتنسيق مع بقية الأحزاب في المعارضة ، بهدف مواجهة المؤتمر الشعبي العام الحاكم - كمعارضة – ، ومن داخل الأجهزة والمؤسسات الرسمية من خلال المراكز الهامة والحيوية التي تحتلها كوادرهم ورموزهم " المعروفين والمستترين - في مفاصل الدولة ومؤسساتها المدنية والعسكرية والأمنية ، وفي التكوينات القيادية والقاعدية المختلفة للمؤتمر الشعبي العام الحاكم ، التي كانت ولا زالت تعجُ بالآلافِ منهم !! ، - وهذا ما تبين فعلاً من خلال الانشقاقات والاستقالات التي تمت في أجهزة الدولة ومؤسساتها المختلفة منذ بداية الأزمة ، وعلى الأخص في ساعة " صفر الإنقلاب " يوم 21 مارس / آذار 2011م !!؟- فأرهقوا الحزب الحاكم وفجروا في وجهه – من مواقع العارف بكل تفاصيل وخبايا أمور خصمه – آلاف الألغام ، ونصبوا له آلاف " الأفخاخ " القاتلة ، حتى أوصلوه للسكوت الغير مبرر عن تجاوزات دستورية وقانونية خطيرة ، والتفريطِ المُسْتَغرَبْ بحقوقه كممثل للشرعية الدستورية ، وبحقوق الشعب وإرادته وخياراته ، والرضوخ للمساومات الفجة على مصيره ومصير البلد ، رغم امتلاكه للشرعية الدستورية !؟. أما " النحرُ الثالث " للدستور والتجربة الديمقراطية ، فكان أشدُ وطأة على القيم الديمقراطية والأخلاقية والإنسانية والحقوقية ، وعلى آمال وتطلعات الناس وأحلامهم في وطنٍ آمنٍ ومستقرٍ وعادل !!، وذلك عندما توافقت ذات الأحزاب والقوى المتنفذة بتاريخ 26فبراير 2009م ، على مصادرة الحق الانتخابي للشعب في موعده الدستوري المحدد يوم ال27من أبريل 2009م ، وقررت نيابةً عن مجموع الناخبين ، تأجيل الانتخابات النيابية لمدة عامين !؟ ، ضاربةً عرض الحائط بكل الأحكام الدستورية ، ومتناسية إن العملية الانتخابية هي حقٌ للشعب وليس للأحزاب ، وإنها بتلك " القرصنة " تنتهك حقٌ إنساني ووطني ومصلحة شعبية آنية ومستقبلية ، وأنها بخطوة كتلك تُجْهِضُ المشروع الديمقراطي من أساسه في اليمن ، وتؤذنُ برِدةٍ حقيقية إلى مربع ما قبل ال22من مايو1990م !؟، فكان ما توقعناهُ حينها وحذرنا منه ، عندما قادت تلك " القرصنة " الجميع فعلاً ، إلى " شرِك المُشْترَك " الذي كان يهدفُ أولاً إلى تجريد الحزب الحاكم من شرعيته الدستورية ، ومن ثَم إلى إحداثِ فراغٍ دستوري في البلاد ، يقود إلى فوضى عارمة تضربُ مرتكزات الدولة وتهدد أمن واستقرار البلد والمنطقة ، وتستدعي التدخل الإقليمي والدولي ، لإعادة تشكيل الخارطة السياسية في البلد وإن كانت على حساب كل المكتسبات الوطنية المحققة !!؟ ، وهذا بالفعل ما نجحوا – وإن جزئياً – بتحقيقه ، وعلى الأخص بما ولدته الأزمة الطاحنة التي أكلت الأخضر واليابس خلال العشرة الأشهر الماضية ، من تفككٍ وجروحٍ غائرة في البنيان الاجتماعي ، وخسائر فادحة لا تُعوض في الدماء والأرواح والاقتصاد والتنمية ، والأهم في إجهاض التجربة الديمقراطية – التعددية ، واستبدالها " بديمقراطية طوائف مراكز القوى المُتنفذة !! " ، عودةٌ بالبلد إلى مراحل الشمولية المُقنعة ، التي تُنتهكُ وتُقمع في ظلها الحريات العامة والخاصة ، وتُغَيبُ العدالة وحقوق الإنسان والمرأة ، ويَكونُ عنوانها الفساد بكل أشكاله ومستوياته وألوانه ، وهو ما سيَفْتحُ في وجه اليمن على المدى المنظور أبواب جهنم ، الذي نَراهُ حقيقةٌ مُجَسدةٌ بِكُلِ صورها من خلال " النحر الرابع " للدستورِ والديمقراطية ، الذي تَم مؤخراً في ال 20من نوفمبر 2011م ، على مقصلة مجلس الأمن والمحفل الدولي أجارنا الله !!؟. أما " تَقاسُم اليوم " فقد أعادنا إلى أجواء ومربع العام 1993م ، حينما اختلفت واصطرعت ذات القوى المتنفذة ، لعدم قناعة بعضها بنتائج الانتخابات النيابية ، ولأنها مُجْتمِعَة عجزت حينها أن تكون ديمقراطية ، وأن تمتثل لإرادة الناخبين في تشكيل الحكومة ، ولأنها اعتبرت نفسها فوق القانون والدستور ورفضت أن تلتزم بأحكامهما وتفي بمقتضيات التنافس السياسي السلمي ، فقد أسْدَلت على النظام الديمقراطي التعددي ستاراً مخملياً أسوداً ، وحوًلتهُ إلى مُجردِ " نَصْبٍ تاريخي " للفرجةِ والدعايةِ ومُقتضيات استرضاء المجتمع الدولي !! ، فيما صَممَتْ لنفسها باسم هذا النصب الديمقراطي المُحَنطْ ، نظاماً على مقاسها وعددها " لتقاسم " مؤسسات الدولةِ والحكومة وتوابعها ، وهذا بالضبطِ وبالحرفِ ما تمً في " المذبحة الرابعة " للدستور وللنظام الديمقراطي وللتعددية الحزبية والسياسية في ال20من نوفمبر 2011م في الرياض !!؟ ، ولذلك .. ولأن المراضاة والترضيات للنخب ومراكز القوى كانت قاعدةً للمبادرةِ واتفاقياتها المُبرمة بين الطرفين ، ولأن التنازلات التي قدمها الطرفان ، كانت لتحقيق وتأمين مصالح بعضهما المتبادلة في الحكم وعوائده ، ولم تكن لمصلحة النهج الديمقراطي وموجبات بناء دولة المؤسسات والقانون وامتثال الكل لها ، فإن علينا شئنا أمْ أبينا أن ننتظر صيفاً أكثر جحيماً من سوابقه !! ، لأن الناس يختلفون ويتقاتلون على " تقسيم وتوزيع المصالح والمغانم فيما بينهم " ولكنهم لا يختلفُون عندما يُجنبون مصالحهم ، وتُقدم المصلحة العامة على ما سواها !!.. فكان يُنتظر أن يكون التوافق على وزارة " تكنوقراط – مستقلة غير مُنحازة " ، كي نظمن عدم بقاء هيمنة أحزاب مراكز القوى التي لم تكتفِ – خلال العشرين عاماً الماضية - بتقاسم مواد الدستور والقوانين المنبثقة عنه فحسب – ، وإنما تعدى ذلك التقاسم ليشمل كل اللجان والمؤسسات المتعلقة بإدارة الشأن الديمقراطي والقانوني والقضائي والانتخابي .. حتى طال هذا التقاسم المقيت الماء والهواء !؟ ، فيما تركت هذه القوى للشعب بقايا بعضه وفتات مُترفيه !!؟؟. فهل ننتظر في هذا العام صيفاً جديداً كصيف 1994م؟؟. ... و لك الله يا وطن .