يأخذ علي عدد من الاصدقاءوالأهل والأقارب جديتي المفرطة ويعتقدون انني ما ان امتنع عن إطلاق ضحكة عريضة حتى أبدو وكأنني قاس لا اطاق وهذه الصفة لاتتناسب مع حقيقة شخصيتي ودائماً بحسب تلك القلة من الذين يهتمون عن كثب بأمري وأبادلهم الاهتمام نفسه. كنت غارقاً في التأمل مقطب الحاجبين شارداً اتخيل سيناريوهات لعدد من القضايا الجدية المختلفة عندما انضم الي حول طاولة الغداء عدد من الزملاءالذين التقيت بهم للمرة الاولى خلال متابعة الانتخابات البرلمانية الاخيرة واذا بأحدهم يحدق بي ويستنتج ان ملامحي قاسية وانني جدي للغاية، وذلك من دون معرفةكافية بي، الأمر الذي فاجأني وجردني من كل رد ممكن فالتزمت الصمت. تناولنا مع الزملاء مواضيع كثيرة من بينها المسافات التي تفصل بين صنعاء وباقي المدن اليمنية، ومن ضمنها مدينة حجة. إسم المدينة لفت انتباه احدهم وهو الأكثر اعتداداً بنفسه والذي مابرح منذ يومين ينظر الى كل مايحيط به نظرة استعلاء ويحكم على الشارع المواجه للفندق بالتخلف ويؤكد انه لم يكن يتوقع ان يشاهد ماشاهده. وفي كل ذلك كان يثير حفيظتي ، وقد ضبطت اعصابي مرتين حتى لا اندفع في السخرية من احكامه وملاحظاته التي توحي وكأنه كائن حضاري فريد من نوعه هبط في بلد لايستحق زيارة شخص من صنفه!! سألني الزميل: كيف يمكن الوصول الى حجة عله يرى شيئاً آخر مختلفاً عما يراه في صنعاء ، وذلك بعد ان سمع مني عبارات المديح حول هذه المدينة التي لم أزرها من قبل وان كنت احتفظ بصورة تقريبية عنها من خلال اوصاف ونصوص قرأتها وروايات اناس عاشوا فيها وهم من مختلف الأعمار. قلت للزميل يحتاج الأمر الى حوالى 3 ساعات للوصول الى المدينة بالسيارة وان الطريق لاتخلو من الصعوبة، لكن الأمر يهون عندما يصل الزائر الى حجة الساحرة. أجاب بقدر من قلة الصبر والامتعاض: لا.لا.لا. 3 ساعات !! لايمكن ان اتحمل عناء الرحلة. ألا توجد مدينة قريبة يمكن الوصول اليها خلال نصف ساعة او ساعة في حد اقصى. قلت : بلا.. يمكنك الوصول الى حجة نفسها في نصف ساعة اذا اخذت قطار الأنفاق فهو اسرع من السيارة لكنه مكلف اكثر وربما لثلاثة اضعاف اجرة السيارة. قال: هل تمزح؟ أيوجد قطار في اليمن. لقد تجولت في المدينة ولم أر اثراً لأية محطة للقطارات ولاللسكك الحديدية. قلت بعبارات حاسمة: هل ذهبت الى باب شعوب؟
قال: لا. اين باب شعوب؟ هل هو بالقرب من باب اليمن لقد زرت باب اليمن هذا الصباح. قلت: لاعليك. لا. ليس بعيداً عن باب اليمن ومن الطبيعي الا ترى المحطة والسكك الحديدية. فهي تحت الارض ويعرفها أهالي المدينة. قال: وكيف اذهب الى هناك. هل يأتي أحد معي. قلت: يمكن ان نأتي معك. لكن ننصحك قبل ذلك بالقاء نظرة على المحطة. اطلب من السائق ان ينقلك الى باب شعوب وان يدلك على المحطة. انزل من بعد الى تحت الارض واسأل عن السعر ثم احجز لنا جميعاً مقاعد في الدرجة الاولى ليوم غد ذهاباً وإياباً ثم عد باضبارات الحجز باسمائنا وفي صباح الغد ننطلق معاً. واستدركت: . لا تهتم ان استهجن السائق طلبك فأهل المدينة لايحبون القطارات ولايحبون السفر في مواصلات الانفاق تحت الارض.. قل له انقلني الى باب شعوب فقط وتدبر أمرك بنفسك من بعد. احتار الزملاء الآخرون فيما أقول وبدت عليهم ملامح الدهشة لكنهم لم يملكوا ان يشككوا في كلامي الذي ترافق مع تعابير وجهي البالغة الجدية. قصة محطة القطارات في باب شعوب لم تدم طويلاً، فقد اكتشف الزميل خلال دقائق ان الامر يتصل بمزحه وطلب تفسيراً لذلك.. فشرحت له ان محطة باب شعوب الوهمية هي الرد المناسب على رد فعله المتعجرف عندما تحدثنا عن مدينة حجة الساحرة وعن الوقت اللازم للوصول الىها . ومن حسن الحظ ان اخلاقه كانت رياضية وتقبل المزحة ساخراً من نفسه. انتشرت الرواية بين بعض الاخوة اليمنيين الذين انتابتهم موجات من الضحك لكنهم حافظوا على احترامهم للزميل وللزملاء الآخرين واكتفوا بالتعليق على تفاصيل الحادثة فيما بينهم وطاب لأحدهم ان يضيف الى خط باب شعوب- حجة خطوطاً اخرى نحو سيئون وعدن والحديدة وتعز في كل مرة يصادف شخصاً متبرماً بالمسافات بين المدن اليمنية والوقت اللازم لبلوغها.. في الايام التالية فاجأني أحد الاخوة اليمنيين بالقول ان القطار حلم جميل وقد ينجز ذات يوم خط باب شعوب- حجة ثم طفق يسألني عن القطارات في مدننا وما اذا كانت مريحة وسريعة فعلاً. وحتى اوسع أفق حلمه وكي احمله على التمسك بمشروع الخط الوهمي قلت ان القطارات في الغرب رائعة وافضل من الطائرات فيها، يمكن للراكب ان ينام ان رغب وان يتناول افضل الوجبات التي تحملها اليه حسناوات حوريات، وبجانب مقعده هاتف يصله بكل انحاء العالم وبشبكة الانترنت وبمواجهة مقعدة تلفاز يبث قنوات عربية للركاب العرب الذين لايجيدون الفرنسية.. الخ. لم يشكك في أقوالي واخذ يتخيل الزمن المطلوب لبناء السكك الحديدية في اليمن مردداً: ربما خلال عشر سنوات من يدري .. الله اعلم. ان كنت عزيزي القارئ ممن يحتفظون بملامح قاسية انصحك بالذهاب الى باب شعوب والسؤال عن محطة قطارالانفاق التي تربط حجةبصنعاء ان لم تجدها لا عليك كرر السؤال انظر بجدية في وجه أول عابر سبيل في المكان وستلمح في عينيه نظرة تساؤل عن السبب الذي يجعلك تحدق فيه وسيكتشف ان ملامحك غير قاسية وانك شخص يحلم كالاطفال. قص عليه تفاصيل الرواية واختمها بالقول: لقد فاتنا القطار هذه المرة مارأيك لو نرتشف القهوة على الرصيف بانتظار القطار الوافد.. قد تنفجرا بالضحك معاً وتختفي آثار الحواجب المقطبة عن وجهك وتبدأ يوماً آخر أقل كآبة واكثر فرحاً.