مرة أخرى ننوه بأننا لا نعمم، ما تزال لدينا وجوه عسكرية طيبة من ذوي الإنجاز والهمة وإعمال الفكر والولاء للوطن. المقصود بجنرالات 'سدادات البيبسي'، أو سدادات قناني البيبسي كولا هم مارشالات وألوية أفريقيا وبلاد العرب وبعض من دول آسيا، هم الذي تراهم في الاستعراضات والاستقبالات وقد 'تدندشوا' بالأوسمة والميداليات والنجوم (الدبابير) التي تكاد تقول 'اشرب بيبسي وبس' والنياشين والشرائط بلون الطيف كلها تعبر عن البطولات والملاحم التي خاضوها ووحداتها (ربما في ألعاب العالم الافتراضي)، تنظر إليهم فترى الشحوم وقد زحفت واستقرت على الكرش (الدحرة) والمؤخرة وتحت الذقن فصاروا كدمى في مسرح اللامعقول، تتمعن في الوجوه فتراها منقبضة عيونها متوجسة تحملق يمنة ويسرة وتطلق الشرر كأنهم قد خرجوا لتوهم من حمى الوطيس، ثم سرعان ما تدرك أن المسألة تتعلق بحالة عسر هضم لوليمة دسمة كالعادة، فوجباتهم اليومية الثلاث ولائم كلها، أو ربما بسبب كثرة اتكائهم على آرائك الطنافس يتدبرون شؤون العساكر ويتدارسون تفاصيل صفقات توريد لوازم الحرب من طائرات وصواريخ وهناقر الزنك المكيفة الهواء لزوم التدريب على مدفعية الميدان بعيدة المدى، وبالطبع نفهم أن المزاج قد يتعكر عند مقاسمة 'الأتعاب' وتوزيع الغنائم الناتجة عن معارك توريد السلاح بغرض التصدئة. جيوشنا وانتصاراتها جيوش العرب ومعها معظم جيوش العالم الثالث في قرن كامل لم تحقق سوى النزر اليسير من قصبات السبق في حلبات الحروب، عادة يتقرر مصير معاركها من الطلقة الأولى. فلماذا الجيوش والعسكرتاية؟ ولماذا الإصرار على إهدار الموارد؟ ولماذا العقم لصيق بها؟.. فلنتأمل في المفاهيم الجيش في مفهومه الأساس والمتعارف إليه هو الدفاع عن الوطن عندما يغار عليه من قبل جيش آخر، هو مؤسسة لا تخضع لحساب الربح والخسارة، فهي دائمة الوجود والاستعداد، استعملت أو ظلت على أهبة الاستعداد فهي بكينونتها الساكنة تؤدي دور الرادع لمن يخطر له دخول الوطن، ترصد لها الموارد ويساق إليها البشر، ولا تحكمها افتراضا مماحكات السياسة، وهي تخطط وتحضّر ولا تدخل حربا جزافا إلا في حالة صدور الأمر من القيادة المدنية، وإذا دخلت حربا وفازت أو صدت العدو عن تحقيق أهدافه، فهي مجدية وإن خابت فالملامة عليها وعلى قادتها ومجهزيها ومدربيها. بريق الجيوش عندنا الجيش اكتسب في مجتماتنا عبر عقود مضت، هليمانا وبريقا جذابا استقطب الآلاف من شبابنا، البعض بدواعي الوطنية أو مجرد الانبهار 'بسدادات البيبسي' ومزايا الزي التي يرونها عند كبار الضباط. الجيش صار 'بالوعة' لأموال الوطن بدون مقابل ظاهر بيّن؛ ولا نتحدث هنا عن المعارك وما صار فيها، ولكن فقط على مستوى الأداء والاستعداد ونوعيات القيادات والفعالية المفترضة التي غابت شواهدها. تكونت ذهنية جديدة في جيوش العالم الثالث مفادها أن للعسكر الحق في إدارة دفة أمورهم وأحيانا البلاد ولهم الأسبقية في الموارد وبإنهم أدرى وأجدر وأنفع. التفوا على بعضهم البعض ضمن 'طبقة' جديدة عسكرتارية، كهيئة خفية تفرض رؤيتها وتقول كلمتها، ليس في الشؤون العسكرية فقط، بل والسياسية والإدارية والتجارية والاقتصادية. صار العسكر كينونة منفصلة بذاتها عوض أن تكون مركبا يدخل فيه الناس ويخرجون ولا يظل فيها إلا من أثبت جدارة أو أدى الحد الأمثل فيما يقع عليه من عبء ضمن المناط به من مهام، أي الدفاع عن الوطن في حالة الحرب والاستعداد والتدريب المتواصل في حالة السلم. عساكرنا والعقيدة العسكرية العربية في مسار تطور عقيدتها، انطلقت في البدء من تلك السائدة في العصر العثماني وفحواها كسر الأنوف حتى تتعلم الطاعة وعندما تتقنها تتم ترقيتك لتفرض طاعتك أنت على الجدد، وربما تنتقم لما لحق بك من إهانات بتكراره على غيرك، أو لم تصبح 'عسكرا' أنت الآخر؟ أعيد تشكيل العقيدة/المفهوم لعساكر العرب، هذه المرة، وفقا لإرث جيوش المحتل أو المستعمر غداة الاستقلال (أيا كان) وهي أيضا لم تكن تعني كثيرا بقيمة الجندي النفر كإنسان، بل اعتبرته حجرا رقما، يعلمون فيه ما يشاؤون، فلا تصور لتطوير تنموي بشري لرفع المستوى ولا اهتمام بروحه المعنوية وظروفه المعيشية. حروب العالم الآخر العالمية قسّمت الكون إلى معسكرين (الغرب والشرق) هذا ليبرالي ديمقراطي وذاك اشتراكي شمولي، ولكل مأرب ومصلحة، وانقسمنا نحن كذلك، وإن ادعينا بحيادية (إيجابية!) وصار لكل طرف سلاح الحليف وعقيدته ثم دوره الذي أملي عليه من عل بالخفاء. مما فعلوه بنا كان زرع 'إسرائيل' في خاصرتنا من قبل الغرب ومباركة الشرق الستاليني في حينه، وهي التي أظهرت لنا عوار جيوشنا وقادتها وخواء ساستنا واهتمامهم بشؤون أخرى غير شؤون الوطن. أخذت الهزائم تتوالى علينا طرّا (اللهم الا بعض إنجاز باهر في بداية حرب أكتوبر 73، سرعان ما ذهب بريقه وكأنه حلم ليلة صيف)، وإلى الساعة توالت الهزائم، أو فلنقل غابت انتصارات جيوشنا العرمرم في مواجهة إسرائيل أو غيرها، وإسرائيل أيها السادة لا يبلغ جيشها معشار جيوش العرب كافة عددا. نصل الآن لمحاولة الإسهام في مفهوم الجيش مع استعراض للمثالب واقتراح لأفكار بحلول، وليس المقصود من التشريح الحط من شأن المؤسسة العسكرية، فهي لنا وموجودة لحماية ديارنا وهي الوسيلة لكي ينخرط الكل عند الحاجة في تعزيزها وتقويتها، الجيش للدولة والدولة لنا نحن المواطنين العاديين. الخوض في مسألة 'العسكرية' في عصرنا اليوم الزاخر بمخرجات ثورة المعلومات والاتصالات؛ لم يعد أمرا يستدعي خبراء وفطاحل في بديهيات 'العسكر'، وفي نهاية الأمر إذا كنا نتحدث في بعض بلداننا عن إصلاح ما عطب وتصويب التوجه وتصحيح المسار في مجتمعاتنا وقضايانا، وبكل ما يؤثر علينا سلبا أو إيجابا، فمن حقنا إذا أن نخوض في ما نرى أنه يعود إلينا بما في ذلك ماذا يجب أن تكون عليه الجيوش. الدفاع ضد من وأي عدو؟ نحن دول شراذم بالمقياس العالمي، تم اصطناع حدوننا وأوطاننا في مؤتمرات المنتصرين في الحربين العالميتين بالقرن الماضي، جغرافيا بلداننا في معظمها صحارى شاسعة، لدى بعضنا بحار من النفط محط أنظار الغرب وموضع شهيته، الفتنة مزروعة مسبقا في أذهان ولاة أمورنا، إن لم نقل شعوبنا، فكيف تكون الجيوش؟ الجيش للدفاع عن الوطن عن أية أخطار؟ (كيفما اصطنع وأيا كان مصطنعه) ترى ما هو الخطر أو التهديد الذي يهدد هذا الوطن وذاك؟ وكيف ينطلق للذود عنه؛ لا نرى إلا أخطارا محتملة الوقوع تنتج عن سوء فهم أو تفاهم ينشأ عنه عداوة مع إحدى دول الجوار 'الشقيقة' أو بحماقة مرضي عنها غربيا أو بإيعاز من 'آخر' أو مجرد إملاء موارب، فتكون حربا تستلزم الجيوش .. وننحر بعضنا بعضا. الخطر الثاني؛ هو عندما يعتمد الغرب تاريخا لانتهاء صلاحية نظام ما، ويرى تهديدا وشيكا لمصادر طاقته أو مصالحه الجيوسياسية، وعندها سيقوم الغرب علينا مباشرة بجيوش جرارة تكتسح الأخضر واليابس بحجج تم الإعداد والتحضير لها سلفا؛ لعلكم تحزرون من سيقود مثل هذه الحرب 'الانتقائية الإرادية'؟ بطبيعة الحال ستسبق ذلك حملة إعلامية مركزة لتبريرها ثم ترسل الجند زرق العيون شقر الشعر يضغطون على أزرار عن بعد، تطلق نار الجحيم فيعم الدمار الشامل تزهق الأرواح بمئات الآلاف، سيكون هنالك دائما صحب من أفراد الوطن يطبلون ويزمرون. الخطر الثالث، أن يتعرض أحد أوطاننا لهجوم إسرائيلي، ولما كان البون شاسعا ساحقا بيننا وبينهم، فجنودهم من الفئة الأعلى في التعليم وحيازة التقنية ولديهم حس بالمواطنة وحقوقهم محفوظة ويستيطعون أن يغيروا حكوماتهم متى شاؤوا، وجنودنا فقراء بؤساء لا يملكون إلا الحماس والإقدام، إلا أن ذلك لم يعد يكفي حروب اليوم، فالغلبة للأكثر حيازة للمعلومات والتقنيات، ستكون الحرب قصيرة (فإسرائيل تحارب بجيش قوامه شعبها بكامله ولا تستطيع الاستغناء عنه مدة طويلة فقد تنتهي الدولة عندئذ)، ثم ينتج عن ذلك 'أراضي محتلة أخرى' وتنطلق مفاوضات السلام، فسيقول بعض ولاة الأمور 'لقد جنحوا للسلم؛ ألا نجنح نحن أيضا'. الخطر الرابع، يتمثل في اضطرابات محلية على أسس عشائرية، عرقية، ثقافية، دينية، قبلية، وهذه من الممكن تداركها قبل أن تنشأ عندما يكون هنالك وعي سياسي بها، وتحتاج لشجاعة سياسية في الاعتراف بها والعمل على الوصول إلى حل يدرأ الشر المستطير منها، ولكن عندما يشرع فورا باستخدام الجيوش، وأيا كان الجيش، فلن يلاقي انتصارا ينتظره، بل سيلاقي مما قد يفت في عضده ومؤسسته بل في الوطن كله. في حالة أن الواقعة قد وقعت فلتكن الأهداف محدودة ويكفي الحصار وتأمين الطرق لحين التوصل إلى حل. خطر التحارب مع الدول 'الشقيقة' والتحارب مع الذات داخليا، يتطلب صده قبل ولادته، يجب على ولاة أمورنا محاولة خلق نوع من التعايش بين مختلف الأنظمة والتوصل إلى توافق على حد أدنى بموقف عقلاني وواقعي يستجيب لمتطلبات الجميع. الجيش الذي نريد بواقع بلدان العرب، الغارقة في التخلف وضياع فرص النماء وعطب وقلة حيلة من يتولى تسيير دفة مؤسساتها، وبواقع كون العديد منا حائزا لموارد طاقة هائلة، ولما كان المجتمع في جلّه متخلفا فمن البديهي أن الجيش الذي سيخرج منه سيكون ضعيف الكوادر بتأهيل ردئ، كما هو الحال في مؤسسات المجتمع/الدولة الوطن/الإدارية والاقتصادية، ناهيك عن آفة الفساد وامتهان الحقوق وتسلط العصبية القبلية عدوة التحضر والتمدن والتقدم، من خلال هذا الواقع يستوجب الأمر أن يكون لنا جيش بصفات كالتالي: الجيش ومكوناته من ضباط وضباط صف وقادة، يجب يخضع لبرامج تنمية بشرية وتوعوية وتأهيلية وتدريبية وتعليمية منتظمة غير منقطعة تستمر حتى التقاعد، الغرض هو محاولة للخروج من حالة السقم إلى حالة الصحة، وتمكين العناصر من اللحاق بالعالم وما وصل إليه، فالعدو الحالّ هو من هذا العالم ولن تستطيع أن تبارز من كان أكثر منك علما وتقنية، حروب اليوم لم تعد تعتمد على أكداس مكدسة من الدبابات والطائرات التي نستوردها ولا نعرف حتى صيانتها، ناهيك عن استعمالها، وما يعطونه لنا بيعا أو هبة، يستطيعون القضاء عليه في دقائق بالضغط على أزرار. جنودنا اليوم في حالة الزج بهم في حرب مع دولة كبرى، لن ينالوا فرصة للقتال، سيحترقون ويصبحون هشيما، فهم بالنسبة لها، أي الغرب، ليسوا سوى علف وتبن لمدافعهم التي لا يرونها حتى. لكي يكون لنا جيش يستحق الاسم، لا بد من الارتقاء بالإنسان في بلداننا، بما في ذلك صنف القادة والمخططين والاستراتيجيين وأعضاء الأركان. الجيش الذي نريد، يجب أن يكون قليل العدد، دقيق العدة، جيد الإعداد، أفراده بكليتهم، يجب أن يتمتعوا بمهارة فائقة وقدرة على التفكير واتخاذ القرار، يجب أن يكونوا من المتعاملين مع التقنيات الحديثة، ليس استخداما فقط بل تطويرا وابتكارا أيضا، أسلحة اليوم تعتمد على الحادث في ثورة المعلومات وتقنياتها، على البرمجيات وتحديثها، عناصر الجيش يجب أن تكون من فئات العالمين المدركين لخفايا الجغرافيا والاقتصاد والاستراتيجية والميكانيكا والإلكترون، نحسب أن الضابط برتبة الملازم أول في الجيش العصري يجب أن يكون لديه ما يعادل الماجستير، وهؤلاء سيكونون قادة الجيش في المستقبل، ولكي يصلوا لمثل هذه المراتب، عليهم الاستمرار في التطوير والتحديث والتعليم طوال فترة خدمتهم، هو جيش نخبة متميزة تكون مثالا لبقية مؤسسات الدولة، أما العدد فلا حاجة لنا به اليوم... ولا غدا. عقيدة الجيش الذي نريد، يجب أن تكرس أولا وآخرا للدفاع عن الوطن عند صدور الأمر من القيادة السياسية المدنية الشرعية المرتضى بها، وليس لها أن تحوز شرعة حيازة زمام الحرب بنفسها، إذا كنا لا نستطيع مقاومة دولة كبرى، فلتكن العقيدة هادفة إلى جعل عملية الغزو والاحتلال باهضة التكاليف للمعتدي، وهنا يدخل في المجال حسن الإدارة والاستشراف واستنطاق المستقبل، وحس الإعلام المجدي (الذي يجب أن يبتعد عنه كل من هو للمباخر حاملا)، الحرب وفق التعريف التقليدي (الذي يرجع للجنرال الألماني كلاوسفيتز إن لم تخن الذاكرة): هي السياسة بوسائل أخرى، والذي يشن عليك حربا في هذه الأيام لديه إنجاز سياسي عليه تحقيقه، وما نملكه هو جعل ذلك مكلفا فيصعب عليه توفير الوسائل من مجالسه التشريعية، وإذا استطعنا تحقيق ذلك عن طريق إحداث الخسائر بجنده ومعداته، وحرمناه من الاستقرار عندنا بواسطة حرب عصابات، فليكن ذلك، ولندخل في العقيدة العسكرية حرب العصابات.. ولكن حرب العصابات تتطلب شيئا آخر، تتطلب مواطنين راضين بما لديهم من حقوق، ومقتنعين بالنظام السياسي في الوطن وبأن العدالة سائدة ولا فساد ولا تغييب للشفافية ولا محاباة لقريب أو ابن عم .. بمعنى آخر عندما يكون للمواطن الجندي شيء يخاف أن يفقده، سيكون محاربا من الطراز الأول، وغير ذلك سيكون عبثا في عبث. حرب العصابات تكون مخططا لها سلفا وافتراضيا. الجيش مصنع للكفاءات وليس لحشد الناس الجيش الذي نريد يجب أن يكون معملا وجامعة ومعهدا تخرج منها؛ عناصر متعلمة عالمة حائزة مهنة تستطيع بها العيش في المجتمع المدني، وليس مجرد رقم في قوائم العاطلين المعطلة قدراتهم والخاوية جيوبهم وعقولهم. نفيدكم بأن بعض ضباط 'الدولة الكبرى' التي نخاف منها، عندما يخرجون من الجيش يدرسون في الجامعات، وهذه يعطيكم مدى المستوى الممكن الحصول عليه. إذن، وحيث اننا ننفق ب'الهبل' على جيوشنا، الأحرى أن يكون ذلك على إعداد جيوش نخبة، تنفع لأداء مهامها وتنفع مجتمعها ووطنها عند تأدية خدماتها. يبقى لنا البحث في السوق والتعبئة والاستخبار والتخطيط وملاحقة المستجدات ضمن متطلبات الجيش الذي نريد ونحتاج، لهذا مقال آخر. كاتب ليبي