ظلت مطبوعة في ذاكرتي صورة اليمن «السعيد» منذ أول زيارة لجزء منه قبل ثلاثة عقود ونصف من الزمن، حين شاركت في عدن في ندوة لإلقاء محاضرة عن ديمقراطية التعليم والاصلاح الجامعي في آذار (مارس) 1974. وبقيت منذ ذلك التاريخ أتابع باهتمام كبير شؤون وشجون اليمن بشطريها. قلت مع نفسي: قد يعود الامر إلى رمزية تتعلق بأصولي اليمانية، حيث تنتسب العائلة إلى بني الاشعوب وهم بطن من حمير القحطانية من جبل النبي شعيب ومنها انتقلت إلى بلاد الشام، فاستقر قسم فيها والآخر توزع باتجاهين: الأول صوب فلسطين ومصر والمغرب وتونس، والثاني اتجه مع الفرات صوب العراق، حيث استقر قسم منه في الانبار، والقسم الآخر وصل إلى النجف وعاش فيها وأصبح من سدنة الروضة الحيدرية لاحقاً، بفرامين سلطانية موغلة القدم. ولعل حملي جوازات سفر يمنية خاصة وعادية طيلة أكثر من عقد من الزمن، جعلني أكثر تعلقاً بهذا البلد الأمين بعد زيارات ثلاث سبقت الوحدة الى عدن، وكنت بعد الوحدة العتيدة وعبر الصديق السفير شايع محسن الذي استقبلني في لندن، مثلما استقبلني قبل ذلك في عدن قد استبدلت جوازات سفري، حيث أخطرني بضرورة ختم جواز سفري بختم الوحدة حسب التعليمات. وما زلت احتفظ بهذا الجواز العزيز الذي حماني فترة من الزمن ومكنني من زيارة عدد من البلدان، وحافظت عليه مثل أي شيء عزيز، خصوصاً للثقة الممنوحة لي، وهو ما لن أنساه ما حييت. قديماً قيل: الحكمة يمانية وحكمة اليمن واهلها مستمرة، فلم تجد ثورة 14 اكتوبر تشرين الأول - التي فجرتها الجبهة القومية في ردفان عام 1963، والتي انتصرت عام 1967. باضطرار البريطانيين الى الانسحاب - ضالتها الا بالالتحام بثورة 26 سبتمبر (أيلول) عام 1962م ولعل الشطرين الشقيقين وهما ابنان شرعيان لليمن لم يشعرا بالانسجام والتوأمة حد الالتئام ليكونا واحداً، الا بمقاربة حرية واستقلال الوطن بوحدته، التي تحققت في يوم 22 أيار (مايو) 1990، حين تم انهاء التشطير الجغرافي والسياسي لنظامين ودولتين وحدودين ولكن بشعب واحد، الأمر الذي وضع استحقاقات جديدة أمام الوطن اليمني، لاسيما فيما يتعلق بالديمقراطية والتنمية وتوسيع دائرة الحريات والاقرار بالتعددية واجراء انتخابات وغير ذلك وقد اقترن ذلك بخطوات بدأت ارهاصاتها الجنينية الأولى تنهض وتتقدم وتتعثر أحياناً، لكنها اكتسبت اعترافاً جديداً في ظل التوافق الوطني، خصوصاً بتطويق الانقسام السياسي بعد أحداث عام 1994، وانهاء الاقتتال الداخلي، واعلاء شأن الوحدة باعتبارها أحد الخطوط الحمراء التي لا يمكن عبورها تحت أية مبررات أو مسوغات. لقد دخلت الوحدة في التفاصيل اليومية والبرامج السياسية لحركات وتيارات يمنية وعروبية وأصبحت جزءاً من الهوية اليمنية المعاصرة، التي كانت ناقصة ومبتورة، فارتقت الوحدة بما فيها من رمزية إلى مصاف شعارات الاستقلال وحق تقرير المصير، لاسيما في ظل الموجة العروبية التي دفع عبدالناصر العالم العربي باتجاهها. إن التاريخ اليمني المعاصر يسجل علامتين اساسيتين: الاولى هي النضال ضد الاستعمار البريطاني من أجل الاستقلال. والعلامة الثانية النضال من اجل الوحدة واستعادة واستكمال الهوية. وقد أدرك الاستعمار البريطاني هذا الترابط فحاول ربط عدن بالكومنويلث وتوطين بعض مسلمي الكومنويلث في عدن في أواخر الاربعينات والخمسينات من القرن الماضي، بهدف تعويم هوية الشطر الجنوبي العربية وصولاً إلى مشروع إمارات للجنوب العربي، في محاولة لابقاء سلطنة حضرموت والمهرة وسقطرى خارج اتحاد الامارات اليمنية، ولعل الهدف المحدد والواضح لذلك لو تحقق سيعني قطع الطريق امام الحركة الوطنية اليمنية لتحقيق الاستقلال والوحدة. وإذا كانت اليمن الجنوبية قد تشكلت فإنها ظلت ترنو إلى الشمال، مثلما ظلت ثورة 26 أيلول (سبتمبر) تتطلع إلى يوم الاتحاد العظيم الذي لقي مباركة الغالبية الساحقة من الجماهير العربية وقواها الوطنية في كل مكان، ولأن الوحدة التي أنجزت على هامش مشكلات وتحديات كثيرة، قد واجهتها عقبات كثيرة أيضاً، لعل أبرزها هو «عدول» بعض «أطرافها» أو من خرج عليهم عنها بعد اندفاعهم اليها، وإذا كانت ثمة أخطاء ونواقص ومحاولات تهميش سياسي أو اداري أو غير ذلك، فالحل يكمن في توسيع دائرة المشاركة وقاعدة الشراكة وقاعدة الحقوق، وقاعدة المواطنة المتساوية والكاملة، وليس التفتيش عن حلول أخرى خارج نطاق الوحدة، وإذا كان ثمة مبررات لتحرك جماهيري، للمطالبة في تعزيز المساواة ومنع التمييز لأي سبب كان واشباع صلاحيات المحافظات واشراك أهاليها في ادارتها عبر الحكم المحلي «الذاتي»، فقد لعب الفقر وسوء الأوضاع المعاشية وانتشار الفساد واستفحال ظاهرة الارهاب واستغلال بعض الاخطاء والنواقص في محاولة دفع الامور باتجاه العودة إلى الوراء، في ظل رغبة البعض في تقديم الاوضاع الخاصة على حساب الاوضاع العامة وما هو حزبي ضيق على ماهو وطني واسع، لكن المعتدلين من جميع الاطراف سعوا ويسعون لايجاد حلول وتفاهمات للحراك الجنوبي، بعيداً عن التداخلات الخارجية. إن التحديات التي تواجه اليمن تتطلب المزيد من التسامح لحل الاشكالات القائمة وتلبية المطالب والحقوق الشعبية والاستجابة اليها بروح الانفتاح والتفهم، وحل الخلافات بالطرق السلمية في اطار الوحدة الوطنية، وبعيداً عن دائرة العنف، وهو ما اكده الرئيس علي عبدالله صالح لدى لقائه برئيس واعضاء المكتب الدائم لاتحاد الحقوقيين العرب في صنعاء مؤخراً، الأمر الذي يستوجب المزيد من الصبر وطول النفس والحرص على الوحدة الوطنية وإزالة العقبات أمام توسيع دائرة المشاركة واختيار الاشكال والصيغ الادارية المناسبة لتوزيع الصلاحيات في اطار الوحدة التي ستكون متينة وراسخة وعميقة، بالمزيد من الخطوات والاجراءات الديمقراطية على طريق التنمية الشاملة والمستدامة واحترام حقوق الانسان. واذا كان الامر من مسؤولية الجميع، فإن دور ومسؤولية الحكومة كبيرة وفرصها واسعة لمبادرة وطنية لتلبية المطالب والحقوق وسد ثغرة خطيرة يحاول المتربصون النفاذ منها لوضع العصي امام عجلة الوحدة، فالوحدة يمنية وصدق من قال: والحكمة يمانية. * باحث ومفكر عربي- عضو اتحاد الحقوقيين العرب