لقد كان هذا الجيل "جيل الثورة" الجديد جيلاً حضارياً مؤدباً، فلم نسمع من بينهم من طالب أن يعيش حياة فردية، ورفضوا أن يستسلموا لمغريات المعيشة السهلة والرفاهية العظيمة، التي عاشها قادة الثورات الكاذبة وأولادهم ونساءهم وأعوانهم في النظام، أولئك الذين رضوا لأنفسهم أن يصبحوا بلا جذور، وانقطعت صلتهم بالشعب، وعاشوا عيشة خيالية، فضوت نفوسهم، وجف ماؤهم، وصوحت شجرة حياتهم، فهي لا تعطي جنى بل تتساقط منها الثمار كاذبة، فكان على جيل الشباب أن يدرك هذه الحقيقة، ويكشف زيف الخدع التي صنعها قادة الثورات، فخرج يطالب بحريته المسلوبة، وكرامته المهدورة، وأعلن رفضه لكل الوعود الكاذبة. وينبغي التذكير، أن النظام الديمقراطي العالمي، الذي تنعم الشعوب الأوروبية والغربية في ظلاله، بالاستقرار، والوحدة، والمنعة، والكرامة الإنسانية، وحقوق الإنسان، ارتكز على ثلاث هيئات، الهيئة التنفيذية وهي ما نسميه الحكومة، ثم الهيئة التشريعية، وهي البرلمان ومجلس الأمة ونحو ذلك، ثم الهيئة القضائية، وهي المحاكم وما تتضمنه من قضاة. وكان لا بد لتثبيت هذا النظام الديمقراطي وإرسائه على أسس متينة، من ثورات ثلاث، الثورة الانجليزية عام 1688، والثورة الأمريكية عام 1775-1781، والثورة الفرنسية عام 1789. كان ملك فرنسا ضعيفاً، تحركه ملكة تنظر فيما وراء الحدود لأخيها ملك النمسا. فالفقراء وحدهم يعانون ثقل الضرائب، ويعفى منها الأثرياء. وتفلس فرنسا، أو تكاد، بسبب اشتراكها في حرب استقلال أمريكا، فيقترح وزير المالية، أن تفرض الضرائب على النبلاء، فيجمعهم الملك، ويكون قرارهم أن لا ضريبة على نبيل، ويخضع الملك لقرارهم. ويثرى التجار بما كسبوا من تجارتهم عبر البحار، ويحاول النبلاء اللحاق بهم، فيزيدون حصيلة الأرض، ويشكو المزارعون ولا من مغيث. وتتأزم الأمور، فلا يكون وجه قائم لحلها، إلا بجمع المجالس الطبقية الثلاثة، أحدها يمثل طبقة أهل الدين، والثاني طبقة النبلاء، والثالث طبقة أهل المدن، من الوجهاء، وأهل المهن، والفنون. ولم يكن لرجل الشارع من يمثله. وتوسعوا في مجال الاجتماع، ليزيدوا تمثيل الجمهور فيه، فزادوا الأعضاء إلى نحو الضعف. ولما حان وقت الاجتماع، طلب الناس اجتماع المجالس الثلاثة معا، مجلساً واحداً، وخشي الملك أنه إذا أذن لمجلس النواب في الدولة أن يكون القرار قراره. وكيف يكون هذا وهو الحاكم المطلق. وخشي النبلاء ذلك أيضا، وبعض رجال الدين خافوا ضياع امتيازاتهم، ونشروا شكاوى الشاكين تمهيداً لاجتماع هذه المجالس، فدلت جميعاً على انتشار أراء الفلاسفة في القوم، وهي الآراء التي ساهمت في توعية الجماهير بالنظام الديمقراطي، وقد ظلوا يبثونها في الجماهير خمسين عاماً. إذن، لم تكن الثورة الفرنسية بالثورة المفاجئة. وقد تجمع لها كل ما تحتاج إليه من وقود، ولم يبق إلا عود الكبريت الذي يشعلها. ويشاء القدر أن يتهيأ لها عود الكبريت هذا في عام 1789. ذلك أن حصاد هذا العام كان أسوأ حصاد. فكان هذا هو العود الذي انتظره الوقود. وتقوم الثورة أعنف ما تكون، وأصخب ما تكون، إنها ثورة الجوع، وثورة العري، اجتمعتا. ويسقط سجن الباستيل، ويسرح ما فيه، فيزيدون النار تأججاً. ومع كل هذا، تظل الثورة لا ثورة الغوغاء، ولا ثورة الدهماء، وإنما ثورة الطبقة المتوسطة. وتظل تريد لا عزل الملك، ولكن تقييده بدستور، وأن تكون تبعته في الدولة، تبعة محدودة، بعد أن كانت لقرون طويلة سلفت، استبدادية مطلقة. ويتقدم الكونت ميرابو، وهو من الأشراف، إلى الملك ينصحه بقبول الثورة، وقبول أهدافها، فيرفض ومن ورائه الملكة تحفزه. وتحدث الحادثة التي تبدل مزاج الثورة كلها: يحاول الملك والملكة الهرب، ويقبض عليه عند الحدود. الملك يهرب ليلتقي بالأعداء. مغامرة خاطئة أطاحت برأس الملك والملكة معاً. وتتأزم الأمور وتطول، ويجن الرجال فيها جنوناً، ويطل الطامع في الجماهير برأسه ويترأس، ثم لا يلبث أن يرى رأسه صارت لسكين الثورة للجيلوتين هدفاً. ويبدأ عصر الإرهاب وتتكاثر الرقاب على الجيلوتين وينتظر بعضها بعضاً اليوم بعد اليوم والأسبوع بعد الأسبوع وتدور الدائرة آخر الأمر على صاحب عصر الإرهاب على روبسبير نفسه، فيركع، أمام الجيلوتين، ويميل برقبته تحت السكين، وتهوي عليه، وفي لمحة ينفصل الرأس عن الجسد. ثورة أكل بعضها بعضاً. وإن كانت الناس تتعب فالثورات تتعب. ونال الثورة الفرنسية الإعياء والتعب، وجاء الشاب نابليون، فخرج بفرنسا عن فرنسا، وغامر، وحارب، وغالب، وغلب، وما جاء عام 1815، حتى كانت فرنسا قد تطهرت من الكثير من أوضارها، وصارت من أقوى دول أوروبا وأغناها، وأزخر بلاد أوروبا فكرة وفكراً. إن إدعاء قادة الثورات البائسة بالسعي إلى رقي الأجيال القادمة على حساب لأجيال الحاضرة، إدعاء زائف لا يقبله منطق ولا يزكيه عقل، وهو وسيلة لقبول فئات الشعب، بالذل، والفقر، والجوع، والحرمان، والسكوت على الأنظمة الفاسدة، وهذا هو عين التناقض في التقدم. ولن يظهر إلا في قمة الحياة التاريخية، وعلى حطام عظام الأجيال السابقة، جيل من الناس السعداء، الذين سينعمون بسعة الحياة الكبرى. فجميع الناس الذين عاشوا سابقاً، لا يكونون هكذا، سوى وسيلة لبلوغ تحقيق هذا الوجود السعيد، ولارتقاء الجيل المختار، الذي سيجيء في مستقبل مجهول منا وغريب عنا. إن ديانة الرقي تعتبر جميع العصور البشرية، لا كغايات بذاتها، إنما كآلات صالحة لبناء المستقبل. هذا هو التناقض الرئيسي في التقدم، والذي يجعله غير مقبول ومرفوض من الناحية التاريخية، فهو يشكل قاعدة لديانة الموت، لا للانبعاث، وهو لا يعطي أي وعد في حياة أبدية لجميع الأحياء. إنه ما من سبب لمنح الأفضلية للجيل الذي سيظهر يوماً ما في القمة، ولاستئثاره بالسعادة والغبطة، على حساب تضحية الأجيال السابقة، التي تكون قد عاشت وسط الآلام، والأوجاع، والنقصان. إنه دور الميت الذي ينهض من قبره، ليمتص دماء الإحياء، إن هذا الدور المعطى للجيل المقبل، لا يمكن إن يوحي إلينا بحماس كبير، أو على الأقل إنه نوع رديء وغير مستحب. صالح خريسات