أشياء كثيرة تميز حكوماتنا اليمنية عن بقية حكومات العالم، أبرزها ظاهرة "الهَجَر" الحكومي، فما تعجز عنه القوانين والإجراءات تضطلع به الطقوس القبلية. ذات صباح كنت في زيارة لمكتب التربية والتعليم، فإذا بحشد كبير غفير يلتف على شكل حلقة دائرية في ساحة المبنى، وفي وسط الحلقة ثوران أسودان الواحد منهما بحجم الفيل الأفريقي الضخم! أيش الحكاية؟! قالوا: "هَجَر" لمكتب التربية! لا يستبعد مستقبلا أن يتم اعتماد ميزانية ل"الهجر" الحكومي ضمن الموازنة العامة للدولة، فنجد بند "مقبول ومرجوع" وبند "محدعش" وبند "رأسين بقر"... وليس بعيدا أن يتطور الأمر فيتم إنشاء مصلحة أو مؤسسة الهَجَر الحكومي، ويكون شعارها المرسوم على واجهة مقرها عبارة عن جنبيتين بينهن رأس ثور. وسنرى أوامر وتوجيهات على سبيل: "يصرف للموظف المذكور قيمة ثور صومالي عنيد بدل هجر". تحت شعار "أنا محكم" تدعوكم مؤسسة "جيناكم" للمشاركة في حفل "الزامل الحكومي" لجميع أنواع الهجر. عندئذ سنفتح التلفزيون ونسمع الخبر التالي: "خرج جموع المواطنين إلى أمام وزارة الكهرباء لأداء طقوس الهجر والتحكيم، حاملين الشموع ويؤدون هذا الزامل: يا سلامي عدد طفي ولصي"... وسنسمع في إذاعة صنعاء البرنامج العام نص قانون جديد يلزم الصحفيين وفقا للمادة "حدعش" من قانون "الهجر والمعلومات": يلتزم كل صحفي تسول له نفسه الأمارة بالسوء بانتقاد المسؤول الفلاني أو العلاني بذبح ثور لا يقل وزنه عن تسعين كيلوجراما. وإذا كانت الطقوس القبلية تحظى بالأفضلية لدى الحكومة أكثر من القوانين فهي ولا شك وسيلة تفاهم يمكن أن يسلكها المواطن، وبالتالي يفضل أن نخرج بزامل طويل عريض إلى أمام مؤسسة الغاز، وبدل ما نبز الثور نبز دبة غاز فارغة ونحرق الغترة: "جيناكم يا رباعتاه! احنا داعين لكم مدعى القبيلة! الناس حالتهم حالة ما يقدروا يشتروا الدبة الغاز بألف ومائتين ريال". حسم الخلاف في مستشفى أو مدرسة أو وزارة أو مؤسسة بطريقة "الهجر" و"العقيرة" مسألة ايجابية لا غبار عليها؛ لكن لجوء الناس إلى الطقوس القبلية في كل شيء يضعف القانون، فتجد من يلجأ إلى القطاع القبلي تحت ذريعة أنه لن يأخذ حقه بالقانون. قبل أيام حدث اعتداء على أحد الأطباء داخل مستشفى، ولم تمض ساعات حتى كانت قبيلة الطبيب المعتدى عليه تحشد قواها في المستشفى لرد الاعتبار. "السياسية"