حتى أيام قريبة, وقريبة جداً كانت جميع التحليلات السياسة تذهب بعيداً, تغوص في عمق التوريث, تتبع وترسم ملامح المستقبل, وكانت مثل هكذا تحليلات تحظى بالمتابعة والقراءة من قبل الجميع, فالناس دائماً يتطلعون إلى المستقبل, ويحبون أن يكتشفوا ولو جزء من ملامحه, كانت بعض الصحف هنا في اليمن تتحدث عن الرئيس القادم, وملامح الزعيم الذي سيأتي كنوعاً من انواع التوريث او التوافق الاسري, بعيداً عن صناديق الاقتراع. كان احمد علي يحتل المرتبة الأولى في ذلك السيناريو الذي انتهى مع انطلاق ثورة الشباب في أوائل فبراير الماضي في اليمن, ومثله كان جمال مبارك في مصر, وسيف الإسلام القذافي في ليبيا. لقد أصبح من المؤكد والمثبت عربيا وعالميا، أنّ الشعوب هي التي تقرر نوعية الحكم الذي يدير ويتولى السلطة في بلادها، إن كان حكما ديمقراطيا دستوريا أم ديكتاتوريا استبداديا، لأنّ حكام أي بلد لم ينزلوا على شعوبهم من الفضاء الخارجي أي من مجرّات أخرى، بل هم من أبناء هذه الشعوب، وصلوا للسلطة بطريقة من اثنتين ثم تشبثوا بالسلطة، وهاتان الطريقتان في العالم العربي هما: انقلابات عسكرية كما حدث مرارا في سوريا و ليبيا والجزائر وتونس والسودان واليمن, او ملكيات تستعبد الناس وتستأثر بكل شيء. وقد استولد حكام الانقلابات هذه مولودا طريفا غير شرعي (ابن حرام ) اسمه التوريث، وقد بدأه الرئيس حافظ الأسد بكل الخطوات اللازمة لضمان توريث ابنه بشار ، فما إن مات حافظ الأسد في يونيو عام 2000 حتى تمّ تغيير مادة في الدستور السوري لتكون على مقاس الابن بشار فقد كانت تلك المادة تنصّ على أنّ عمر الرئيس يجب أن لا يقل عن أربعين عاما، فتمّ تغييرها إلى عمر 34 عاما وهو عمر بشار آنذاك . لذلك تمّ توريثه بطريقة سهلة من مجلس النواب الذي لا يمثل الشعب مطلقا، وتولى بشار الرئاسة في العاشر من يوليو 2000 أي بعد شهر تقريبا من وفاة والده، وقد سبق ذلك ترقيته لرتبة فريق في الجيش السوري متخطيا بذلك كل الرتب والأعمار في الجيش السوري، وهذا ما لا يتم في أية مؤسسة عسكرية تحترم نفسها. هذه السابقة السورية التي نجحت بتقدير امتياز مع مرتبة اللاشرف الأولى، كانت مؤهلة للتكرار في العديد من الرئاسات العربية الحالية، الا ان ثورات الشعوب في البلاد التي تسعى للتوريث قد قلب الامور رأساً على عقب, وتلاشت طموحات التوريث, ولم يعد التفكير الا في مخرج طوارئ يحفظ للأب رغبته في الخروج المشرف دون تعرض لمحاكمة شعبية, إلا أن مخرج الطوارئ هذا لم يعد مفتوح بعد أقدام زعماء التوريث على سفك الدماء في محاولة منهم لترهيب شعوب, لم تعد تخيفها فزاعات الحاكم, ولم تعد تلتفت لعينه الحمراء. في سوريا التي يغلب عليها الطابع الأمني الصارم هاهي الثورة تجتاح كل المدن السورية باستثناء دمشق التي لازالت القبضة الامنية تخنق انفاس ابنائها, وقد تشهد الأيام القادمة سقوط مدوٍ لبشار الاسد وخصوصاً مع ايغاله في سفك دماء السوريين, في تجربة تعيد للاذهان تجربة والده التي اعدم فيها الالاف السوريين في حماه. لقد تحررت الشعوب العربية واصبحت عصية على الانقياد وكانها مجموعة من الاغنام التي يتعاقب على رعيها واحداً تلو الأخر, يقول فيصل القاسم في برنامجه " الاتجاه المعاكس " الذي تبثه قناة الجزيرة مساء كل ثلاثاء " أنا عربي، سجل أنا عربي" ألم يسقط ثلاثة من أعتى أنظمة الطغيان؟ ألم تهرب مخابرات مبارك إلى جحورها كالجرذان؟ ألا تتأهب بقية الشعوب لزلزلة الأرض تحت بقية الطغاة وكلاب صيدهم؟ يضيف آخر، ألا يتهافت الطغاة العرب على إرضاء شعوبهم بطريقة ذليلة؟ أليس معظم الحكام مرشحين للكنس إلى مزابل التاريخ بعد سقوط فرعون مصر؟ وطاغية ليبيا ؟ يضيف آخر، أليست الشعوب على وشك أن تدوس مقرات الأحزاب العربية الحاكمة كما أحرق الشعب المصري وداس مقرات الحزب الوطني ببسالة عظيمة؟ ألم تصبح الثورات الشعبية العربية أسهل من شرب الماء؟ ألا تبشر التقارير بسقوط كل الرؤساء العرب قريبا؟ ففي مصر مثلاً كان جمال مبارك يتواجد بصورة اكبر على الساحة المصرية, ودخل جمال مبارك الحزب الوطني كأمين للجنة السياسات, وكون جمعية شباب المستقبل بهدف إيجاد قاعدة شعبية كبيرة من الشباب, وتولى قيادة الحملة الانتخابية لوالده في 2005م, وكان يطمح لرئاسة مصر, إلا أن رياح التغيير جاءت بما لم يشتهيه جمال مبارك, ليصبح معتقل في سجن والده الذي كان يودع فيه عشرات الأشخاص من جماعة الإخوان المسلمين, الذين كان يرى فيهم مبارك خطراً قادم محدق بنجله المدلل " جمال " . وفي اليمن تم تسويق شخصية احمد علي عبد الله صالح بشكل غير عادي, وأوكلت إليه مناصب حساسة, منها رئاسته للحرس الجمهوري والقوات الخاصة' بالإضافة إلى أن احمد علي لجاء إلى بناء شبكة علاقات عسكرية ومدنية بطريقة هادئة وصلت حد تعيين الوزراء والوكلاء, كما رئيس جمعية الصالح ومجلس البرلمانيين القداماء, إلا أن علي عبد الله صالح راء أن تسويق هذا الحلم قد تلاشت بعد قيام ثورتي تونس ومصر, ليعلن في 2 فبراير الماضي عن تخليه عن فكرة التوريث والتمديد. لقد رحل " صالح " عن اليمن رحيلاً اضطراريا, وكان الجميع ينتظر من ابنه أن يتعظ باباه, وان يعمل بطريقة أكثر اتزاناً مع مطالب الشعب' إلا أن شيء من ذلك لم يحصل, لقد وسع احمد من دائرة القتل للأبرياء , واعتمد على سياسة العقاب الجماعي للشعب من خلال قطع الكهرباء والنفط , ليجد الشعب نفسه في مواجهة شخصية تقتات على الدم وتعيش على اشلاء الابرياء الذين يواجهون الموت بصدورهم العارية. لقد تاكد للجميع ان عهد " التوريث " قد انتهى وأسرة صالح لن تحكم بعد اليوم, وان هناك يمناً جديداً بدء يتشكل في الأفق, وان دولة " العسكر" قد ولت, وان النصر لم يعد عليه الا مرحلة بناء نظام جديد ينعم فيه الناس بامن وسلام. وفي ليبيا ظهر سيف الاسلام القذافي على الساحة السياسية من خلال جمعية حقوق الانسان التي انشئها, للإفراج عن عدد من المعتقلين السياسيين في السجون الليبية, وتزعمه لقيادة " تياراً اصلاحياً " دعا من خلاله الى استحداث دستور ثابت لليبيا, ووضع مرجعية ثابتة, مقترحاً تحول " ليبيا الثورة" الى " ليبيا الدولة ", وبروز سيف الإسلام القذافي في الزيارات الرسمية للبلدان الخارجية. كل هذه السيناريوهات سقطت مبكراً, ليتم الإعلان عن تحول جديد في مسار التاريخ, يتمثل في الانتقال من مصطلحات التوريث إلى مصطلحات التغيير, التي لم ترق للزعماء العرب في أكثر " الجمهوريات الوراثية ". الأيام التاريخية في الربيع العربي لقد شهدت الأمة وخلال ستة أشهر ثلاثة أيام تاريخية وباعتقادي أنها بانتظار يومين آخرين, أما اليومين التاريخيين فهما يوم سقوط وهروب طاغية تونس زين العابدين بن علي يوم الجمعة الرابع عشر من يناير لعام 2011 ، بعد ثورة شعبية تونسية عارمة مستنكرة طغيانه واستبداده طوال ما يزيد على عشرين عاما. الطريف في هروب الديكتاتور بن علي أنه يشبه سيناريو هروب شاه إيران عام 1979 ، إذ أنّ شاه إيران رفضت كل الدول استقباله بما فيها حليفته الولاياتالمتحدةالأمريكية طالما هو مرفوض ومطرود بإرادة شعبية إيرانية، فاستقبله أنور السادات إلى أن مات ودفن في القاهرة, وكذلك بن علي رفضت كل الدول استقباله بما فيها حليفته فرنسا، معلنة أنها مع إرادة الشعب التونسي، فاستقبلته المملكة السعودية مع زوجته بشروط منها: السكوت الكامل وعدم القيام بأي نشاط إعلامي أو سياسي معاد للشعب التونسي وثورته، وعدم السماح له بتحويل الأموال التي نهبها إلى البنوك السعودية. واليوم التاريخي الثاني هو تنحى محمد حسني مبارك عن الحكم يوم الجمعة 2 فبراير 2011م, بعد ضغط شعبي عارم استمر لسبعة عشر يوماً, بعد ان ظل متشبثاً بالحكم طيلة ثلاثين عاماً تقريباً, حكم فيها البلاد بالطوارئ وزج بقيادات العمل الاسلامي في المعتقلات, واعد لسيناريوا توريث جمال مبارك, الذي اسقطه ضغط الشارع, ليصبح حلم التوريث مجرد سراب تلاشى بمجرد الاقتراب منه, ليواجه مع أسرته وأركان حكماً القضاء الذي سيقول كلمته فيهم لاحقاً. واليوم الثالث هو يوم تحرير ليبيا الحرة من نظام القذافي في أواخر شهر رمضان المنصرم والقضاء على أطول نظام عربي استمر لاثنين وأربعين عاماً, وتحديداً يوم الاثنين 22 أغسطس وإنهاء مشروع التوريث لسيف الإسلام القذافي, الذي بات مهدداً بالقبض عليه في أي دولة قد يلجىء اليها. اللافت في الثلاثة الأيام التاريخية للطغاة الثلاثة أنّ طاغية تونس أسقطته ارادة الشعب التونسي, ومثله سقوط مبارك الذي اسقطه الشعب أيضاً, وكان يوم الجمعة موعداً لسقوط الاثنين جميعاً, باستثناء سقوط القذافي الذي كان عشية الثلاثاء 22 اغسطس. ماينتظره الشعب العربي هو قدوم يومين سيسجلانهما في تاريخه بأحرف من نور, فاليوم الأول الذي ينتظره العالم العربي من المحيط الى الخليج هو سقوط طاغية سوريا بشار الاسد الذي يتشبث بالحكم من بعد وفاة والده حافظ الأسد في حزيران عام 2000م واليوم الثاني الذي يبدوا انه بات قاب قوسين أو أدنى هو سقوط نظام الرئيس علي عبد الله صالح الذي امتد حكمه لأكثر من ثلاثة قرون, في تشبث وإصرار على بقاءه في الكرسي. والملاحظ أن هناك تشابه بين سياسة بشار و " احمد " في التورط في مستنقعات الدم, وكلاهما متشبث بالحكم, في حين يراهن الشعب السوري واليمني على أن مصير الاثنين أصبح محتوماً, وان خياراتهما أصبحت محدودة.