في ظل الوضع الأمني الهش الذي تشهده البلاد منذ ما يزيد عن عامين - وهو وضع تخلّق بالتزامن مع مولود ثوري مشوّه - كان من الطبيعي تفشّي الجريمة المنظمة بكافة أنواعها، ومن ذلك الجريمة السياسية، وكذا تراجع الأجهزة الأمنية في أداء أدوارها للحفاظ على الأمن القومي للبلاد، وقد عزز ذلك التراجع تنازع القرار الأمني بين أكثر من جهة وأكثر من شخص، مع غياب سطوة القانون وهيبة رجاله التنفيذيين، فضلًا عن انتقال المظاهر المشيخية المسلحة من مناطق النفوذ القبلي إلى مراكز المدن، ومنها العاصمة صنعاء. لقد تحول مركز الدولة إلى مراكز نفوذ ضاعت معها هيبة السلطة الحاكمة، وبدت الأجهزة الأمنية ككيانات كرتونية كاذبة أو مجملات زائفة تحاول بائسة إبراز الجمال فيمن لا جمال له، لكنها سرعان ما تنكشف عن وجه قبيح حين تصدم وجوهنا مشاهد التفجيرات والحرائق والدماء البريئة والفوضى، ولا يمر يوم إلا ونسمع فيه عن مأساة تبكي كل البيوت وتحيّر كل ذي عقل حكيم. بالأمس، كانت فاجعة اغتيال ممثل جماعة أنصار الله (الحوثيين) النائب عبدالكريم جدبان، في العِشاء عند باب مسجد في صنعاء، وقبل ذلك سمعنا عن وقائع اغتيالات مشابهة وكثيرة، وغدا قد نسمع ما هو أفضع من ذلك.. فما الذي يجري في هذا البلد؟، وما الذي يراد منه؟، وما المصير الذي يساق إليه؟.. إن هذا الاستهداف وغيره ليس منصبّا بدرجة أولى على الشخصية المستهدفة، انطلاقًا من مواقفها، المتصلبة أو المرنة، إزاء ما يجري من حراك سياسي ملتهب، بالقدر الذي يجعله استهدافًا لدوائر أوسع من الدائرة الشخصية، وأول تلك الدوائر: الدائرة المجتمعية التي تضطرب وتتفاعل سلبًا مع الحدث، بما ينعكس على تماسك الدائرة التي تليها، وهي الدائرة الثانية المتمثلة بالنظام السياسي القائم، بما في ذلك الحكومة بكافة أذرعها، التي تتعامل مع الواقعة وفق حجمها وحساسيتها وتداعياتها، وأما الدائرة الثالثة فهي سلطات الأمن، وعلى رأسها وزارة الداخلية ممثلة بأعلى شخصية فيها، الذي يُساءل- في الغالب - عن الفشل ولا يُحمد على النجاح، وأما الدائرة الرابعة فهي دائرة الانتماء، وهي الجهة التي ينتمي إليها المستهدف أو تلك التي يحسب على رجالها، وغالبًا ما تكون هذه الدائرة سياسية أو عسكرية أو دينية. وبالوقوف على واقعة الاغتيال هذه ومثيلاتها، نتساءل: من يقف وراء اغتيال الدكتور جدبان؟، ومن المستفيد؟، ولماذا وقعت في هذا التوقيت تحديدًا؟.. الحقيقة أنها ليست المحاولة الأولى التي تعرض لها الرجل، فقد سبق ذلك غير واحدة، وإن كانت الواقعة الأولى قد غابت دون معرفة الحقيقة، فإن هذه المرة قد غاب معها الرجل ذاته، وهنا يبدو البحث عن إجابة شافية عملًا عبثيًّا؛ لأن الأطراف المتهمة تقع على مسافة واحدة من مركز الشك، حتى وإن رُجّح طرف على طرف؛ وبالتالي فلن تكون الحقيقة في متناول اليد إلا إذا جاء الجناة واعترفوا بارتكاب تلك الجريمة.. وهذا الذي لن يحدث!! في الظروف الراهنة التي تمر بها البلاد، ستكون تفسيرات الواقعة كثيرة ومتشعبة، وفق هوى كل طرف، وبذلك تضيع الرؤية الدقيقة المفسرة لهذه الجريمة وأطرافها.. فالذين يلقون بالتهمة باتجاه سلفيّي دماج أغرتهم دعاوى رجالهم بالجهاد ضد الحوثيين، ونسوا أن هذه الواقعة منقطعة الصلة بماضي السلفيين الذين يؤثرون السلام على الحرب، ويقدمون الدفاع على المواجهة.. والذين يتهمون الحوثيين إنما يكيلون التهم بمكاييل الحمق والسذاجة أو المكر والتغرير؛ إذ يعد الرجل رقمًا صعبًا ومهمًّا في حساباتهم، وهو ما يحول دون أن يقدموه كبش فداء لمكاسب لا ترقى إلى قيمة ما يضحون به. أما الذين يقولون بوقوف حزب التجمع اليمني للإصلاح خلف هذا الاغتيال فإنهم يبررون للآخرين براءتهم على نحو ما فعله إخوة يوسف.. وبالطبع كان اتهام الذئب مشجبًا فاشلًا، لأن حزب الإصلاح أحوج ما يكون إلى أن يتجاوز المرحلة الراهنة بعيدا عن أي انجذاب قد يجره إلى الخلف فيخسر خسرانا كبيرا، ولذا فإن من يقف وراء ذلك الاغتيال هو شخص أو جهة أو جماعة لا تنتمي لما سبق، ولا تريد للأوضاع أن تهدأ في دماج تحديدًا، وفي اليمن عمومًا، وكذا عودة التوتر فيها وانتقاله إلى العاصمة وصولًا إلى مناطق أخرى في البلاد على مشهد أقرب مما يجري في العراق أو في سوريا أو لبنان. بقي طرف آخر، وهو الطرف الذي دائمًا ما يشار إليه بالبنان مع كل واقعة من هذه الوقائع، وهو النظام السابق – إذا جاز أن نطلق هذه التسمية - باعتباره طرفًا من الأطراف التي تصطرع على الساحة اليمنية، وقد خسر السلطة برمتها بثورة فبراير 2011م.. والحقيقة أن هذا الطرف قد حُمّل ما لا يطاق، مع إيمان الكثير من خصومه وكذا المتابعين بضلوعه في أغلب ما حدث من اختلالات وأعمال عنف خلال العامين المنصرمين، لكنه لا يوجد دليل يشير صدق تلك الادعاءات، وبالتالي تظل القضية في ذمة المجهول إلى أن تتشجع الأجهزة الأمنية وتقول الحقيقة. كما أنه في سياق التفسيرات الأخرى، ستلقى التهمة كذلك على تنظيم القاعدة الذي أشيع عنه أنه أوعد الحوثيين بالانتقام تعاطفًا مع سلفيي دماج الذين رزحوا تحت حصار الحوثيين لقرابة شهر، ويأتي هذا التعاطف رغم التباينات الفكرية بين تنظيم القاعدة وسلفيي دماج وأقرانهم في بقية المدن اليمنية، كما أن مؤازرات هذا التفسير تنطلق من حيثيات الواقعة التي تتشابه مع العمليات التي تنفذها القاعدة، من حيث التخطيط والتنفيذ، بالزمان والمكان والأداة، علمًا أن سلفيي دماج دانوا تلك التهديدات ورفضوها إجمالًا. وهنا، علينا أن نتذكر وقائع الاغتيالات التي طالت عددًا من رجال الجيش والأمن في صنعاء وحضرموت وأبين وشبوة وعدن والبيضاء، خلال عام ونصف، ونتذكر واقعة اغتيال العميد فضل الردفاني في أواخر ديسمبر من العام الماضي، وصولًا إلى واقعة اغتيال نائب مدير الكلية الحربية العميد علي عمر بن فريجان في غيل باوزير قبل أكثر من شهر، وكيف أن وقائع تلك الاغتيالات تتطابق تمامًا مع ما حدث للنائب جدبان، وستكون واقعة اغتيال العميد بن فريجان، خير شاهد يستدل به؛ إذ كانت عند باب المسجد الذي صلّى فيه، وفي يوم جمعة، وبواسطة مسلحيْن على دراجة نارية، وهو شخصية مرموقة وهدف عسكري ثمين للقاعدة.. والحال مثله بالنسبة لعبدالكريم جدبان، الحاصل مؤخرًا على درجة الدكتوراه، والمنتمي للجماعة الحوثية المعنية بتهديد القاعدة، والذي كثيرًا ما كان يصرح في لقاءات صحافية تنال من القاعدة ومن يسميهم بالتكفيريين. ومع غموض الجهة التي تقف وراء ذلك - إذا تجاوزنا تنظيم القاعدة - تبدو هذه الواقعة والوقائع السابقة لها من أعمال المنظمات الإجرامية السرية التي تتجاوز الحدود، بما لديها من خبرة تخطيطية دقيقة وقدرة تمويلية كبيرة ومهارة تنفيذية منقطعة النظير تذكرنا بمجموعة أبي نضال التي اقتطفت رؤوسًا كثيرة وكبيرة في بلدان عربية وأوروبية بالتعاون مع أجهزة مخابرات عدة، ولا غرابة أن نورد هذا الطرح، إذ أن اليمن تمر بحالة استثنائية تجعل منها بيئة مناسبة لترعرع هذه الظاهرة، لتخدم طرفًا معيّنًا. وأخيرًا، وفي اتجاه قمع الأصوات الداعمة لنشوء هذه الوقائع، يجدر برئيس الجمهورية اتخاذ موقف حاسم تجاه الخطاب الديني الوحشي الذي ينتهجه الأئمة والخطباء والدعاة في عموم مساجد البلاد، الذين يحرّضون ضد المتنازعين في دماج، كلٌ بحسب فريقه وطائفته، وستكون خطوة لاستمرار فرصة السلام التي تطل من بعيد للانتقال بالبلاد إلى ما يؤمله اليمنيون، وقد وثقوا بالأخ الرئيس في بلوغ ذلك يوم أن منحوه أصواتهم.. فتشجّع أيها الأخ الرئيس.