أن تكون الصين الشعبية أكبر شريك استثماري في اليمن، فالأمر جيد، ليس لأن الصينيين قريبون جداً من عقول ووجدان اليمنيين منذ عهود بعيدة، كما قال الرئيس هادي، أثناء زيارته الأخيرة للصين، وإنما للحضور الصيني القوي في مفردات حياتنا اليومية، ومناسباتنا المختلفة ابتداءً بالألعاب النارية والمفرقعات وصولاً إلى الزبيب واللوز الذي يتناسب سعره وقدراتنا الشرائية المتدنية.
وصف البعض زيارة الرئيس عبدربه منصور هادي لجمهورية الصين الشعبية بالإجراء الاستباقي لمواجهة هاجس العزلة والخذلان الذي يتشكل لدى الأشقاء العرب المعنيين بدعم ومساندة المبادرة الخليجية وآلياتها التنفيذية المزمنة، في حين اعتبرها البعض بالهادفة إلى حصد أكبر رقم من العمولات الناجمة عن توقيع الاتفاقيات وتمريرها في ظل اضطرابات أمنية وسياسية وانشغال كل الأطراف بقضايا الاغتيالات والحرب في صعدة ومخرجات الحوار الوطني المتعثرة.
الزيارة التي وصفت بالاستثنائية تمخضت عن توقيع اتفاقيتين هما الأكبر في تاريخ اليمن، الأولى اتفاقية توليد الطاقة الكهربائية بالفحم الحجري بقدرة ألفي ميجاوات وقعها عن الجانب اليمني وزير الكهرباء صالح سميع، وعن الجانب الصيني الشركات المنفذة ولم يتم الإعلان عن قيمة هذا المشروع، والثانية اتفاقية توسيع وتعميق محطة الحاويات بالمنطقة الحرة بكالتكس عدن وزيادة العمق مترين عما كان عليه ليصير (18) متراً، بالإضافة إلى بناء رصيف إضافي إلى الرصيف السابق بطول ألف متر، وقعها رئيس مؤسسة موانئ خليج عدن مع الشركات الصينية المنفذة وتم الإعلان رسمياً عن قيمة هذا المشروع البالغة (507) ملايين دولار.
الإعلان عن هاتين الاتفاقيتين، أو المشروعين تم سريعاً ويكتنفه بعض الغموض، حيث لم يشر إلى موضوع التمويل وعما إذا كان هبة صينية أم قروضاً على الحكومة اليمنية؟ كما لم يحدد قيمة قرض توليد الطاقة الكهربائية بالفحم الحجري، وكذا لم يحدد مكان تركيب محطات التوليد، وزمن التفاوض ونسبة الفائدة على القرض، ووجود دراسة جدوى للمشروعين من عدمها.
مراقب اقتصادي أكد أن تمويل المشروعين سيتم عبر قرض من بنك الاستيراد والتصدير الصيني المملوك للحكومة الصينية، وأن هذا البنك يمول مشاريع الشركات الصينية التي تتقدم إليه بطلبات التمويل. وأوضح أن موضوع تمويل قرض بمليار دولار من البنك الصيني نفسه تم طرحه بشكل مجمل أثناء زيارة الرئيس السابق علي عبدالله صالح إلى الصين عام 2010م، وطرح حينها أن الشركات الصينية ستنفذ مشروعات بقيمة القرض الذي تبلغ فائدته 3% إضافة إلى حوالي 0.7% رسوم خدمات وإدارة. وزير المالية السابق نعمان الصهيبي رفض تماماً طريقة التمويل هذه وأبلغ حينها الرئيس بعدم صوابية الاتقراض، لأن اليمن ستتحمل أعباء فرص قسطه السنوي سيزيد عن (100) مليون دولار.
وبالعودة إلى مشروع توليد الكهرباء بالفحم الحجري فإن وكيل الشركة الصينية المنفذة هو (نجل رئيس يمني تم اغتياله)، ومن حيث الشكل فلم تقم أي شركة استشارية بدراسة الجدوى الاقتصادية للمشروع، وأن من سيقوم بهذه المهمة هي الشركة المقرضة والمنفذة، وفي هذا الموضوع يكمن الفساد الكبير.. وليس معقولاً ما يحدث!
قيمة هذا المشروع تزيد عن (700) مليون دولار ويجري تمرير الصفقة بدون اشعار مجلس النواب، أو الهيئة العليا للرقابة على المناقصات، أو اللجنة العليا للمناقصات، بمعنى أنها لم تتم عبر العطاءات والمناقصات، وحتى بطريقة لا تتبع في اليمن وغير منصوص عليها في قانون المناقصات وهي طريقة (الممارسة) والتي تعني أن تطلب الوزارة من خمس شركات على سبيل المثال لتقديم عروضها للمشروع، ومن ثم تختار الوزارة أحسن العروض دون مناقصة.
المعلومات تؤكد أن مدة القرض 12 سنة بفترة سماح 3 سنوات فقط، وأن ضمانات سداد القرض هي قيمة مشتريات النفط التي تشتريها الحكومة الصينية أكبر مستورد للنفط اليمني، بمعنى أنه وفي حال تخلفت الحكومة عن السداد بعد فترة السماح فإن القسط السنوي سيخصم مباشرة من قيمة النفط الذي يدفعه الصينيون، وهذا الاسلوب تتميز به الصين، فهي لا تأخذ كبقية المقرضين ضمانات عادية بل تصر على ضمان مبيعات البترول، وبالتالي فإن الكارثة على البلد تصبح مضاعفة.
وبحسب أحد الاقتصاديين فإن سعر صفقة توليد (2000) ميجاوات بواسطة الفحم الحجري تزيد عن أقل الأسعار 100% ناهيك عن التلوث الذي سينجم عن هذا المشروع، وعملية استيراد الفحم، في حين تم تخصيص (4.8) ترليون قدم مكعب لتوليد الكهرباء بالغاز في وقت سابق والميزة البيئية وامتلاك اليمن لمخزون هائل من الغاز. صفقة الفساد الأخرى هي مشروع تعميق ميناء الحاويات بعدن وبناء رصيف جديد وشراء رافعات وبناء ملحقات أخرى والتي تم الإعلان عن قيمتها الاجمالية المقدرة ب(507) ملايين دولار، فلها قصة لا تختلف كثيراً في تفاصيلها عن لصيقتها السابقة، فقد سافر الوزير واعد باذيب إلى الصين بغرض التفاوض على الصفقة وأبدى اهتماماً كبيراً حيالها في حين لا تزال مشكلة مطار صنعاء الجديد عالقة وبسببها خسرت اليمن حوالى (200) مليون دولار.
صفقة الحاويات تمت أيضاً بدون دراسة جدوى من قبل شركة استشارية متخصصة وبدون مناقصة أو مزايدة أو ممارسة، وكانت الشركة الصينية هي صاحبة التمويل والمقرضة وهي صاحبة دراسة الجدوى والمنفذة والمستفيدة بسعر يزيد عن السعر الحقيقي 100%. ولكشف فساد هذه الصفقة يمكن المقارنة مع السعر الذي فازت بموجبه شركة (بوسكالس) الهولندية التي عمقت ميناء عدن قبل سنتين (مترين أيضاً) وبتكلفة تقل عن سعر الشركة الصينية ب(200) مليون دولار مع فارق سمعة الشركتين وجنسيتهما. قبل عشرة أيام من توقيع الاتفاقية عقد اجتماع في منزل رئيس الوزراء محمد سالم باسندوة حضره وزراء النقل والمالية والتخطيط، ومحافظ عدن وحيد علي رشيد الذي رفض تمرير الموضوع وأكد على ضرورة استيعاب الطاقة القصوى لميناء الحاويات، والاكتفاء حالياً بعمق الرصيف الحالي، والبحث عن تطوير عدد الحاويات الواصلة سنوياً والتي وصلت لأقل من 200 ألف حاوية العام الماضي.. ومع ذلك فقد مررت الصفقة برعاية رئاسية وعلى مقربة من سور الصين العظيم، رغم أن الجميع يدرك جيداً عدم جدواها الاقتصادية