أكثر ثقة، وأكثر جرأة، وأكثر معارضة، وأكثر وضوحا في طرح آرائه ومواقفه وانتقاداته واتهاماته لخصومه، ويتحدث بلسان رجل ما يزال على موعد مع أمر ما في المستقبل. هكذا، بدا الرئيس السابق علي عبدالله صالح في مقابلة الليلة التي تشكل- في رأيي- أخطر مقابلة أجريت معه منذ تنحيه عن رئاسة البلاد قبل عامين.
أكثر من رسالة وجهها لخصومه في مقابلته هذه، لكن أخطرها كما يبدو تمثلت في تلويحه الضمني في وجه "إخوان" اليمن بمصير قد يكون مشابها للمصير الذي لاقاه "إخوان" مصر. قال هذا ضمناً ودون تلكؤ في معرض إجابته على سؤال يتعلق بسقوط إخوان مصر بعد 30 يونيو. لقد بدا شامتاً حيال ما تعرضت له "الحفنة" الإخوانية في مصر. ورغم أنه أكد على الفارق بين مصر واليمن في معرض تفسيره لسقوط الإخوان في مصر بداية يوليو الماضي، إلا أنه لم يستبعد تكرار التجربة المصرية في اليمن فيما يتعلق طبعا بالإطاحة بالإخوان، شركائه التاريخيين في الحكم. فحينما استبعد محاوره إمكانية تكرار هذه التجربة في اليمن، قال صالح بابتسامة خفيفة ونبرة لا تخلو من ثقة: "من يدري!" وقد طلب من محاوره "عدم الإستعجال" في القطع بأمر كهذا: "لا تستعجل.. لا تستعجل!".
إنها المرة الأولى التي يلوح فيها صالح بأن إخوان اليمن قد يكونون على موعد مع ما مر به إخوان مصر بعد 30 يونيو، ولا يبدو من نبرته في طرح هذا الإحتمال "غير المستبعد تحققه مستقبلا" أنها ستكون الأخيرة. هذا التلويح الذي رفعه عند اقتراب المقابلة من نهايتها أتى بعد مقابلة بدا صالح واثقا فيها وشاعرا بالقوة بصورة غير مسبوقة منذ مطلع 2011. وقد أتى تلويحه هذا بعد تصعيد واضح ضد الإخوان ترافق مع إتهامات كثيرة لهم وربما بعض الإهانات، وهذا ما يعزز من أهمية عدم استبعاده تكرار التجربة المصرية في اليمن.
إنها مرحلة تصعيد صالح ضد الإخوان المسلمين، ليس في اليمن ومصر فحسب بل وفي غزة أيضاً، حيث اتهم حركة "حماس" بأنها صنيعة إسرائيل. وإذ أتهم إخوان اليمن بالوقوف وراء جرائم الإغتيالات والتخريب والتفجيرات ومنها الهجوم الإرهابي على مجمع وزارة الدفاع، فقد رفض اتهاماتهم له بالوقوف وراء الإغتيالات والجرائم والتفجيرات الإرهابية التي تجري في اليمن. واستنكر إتهامهم له باستمرار تحت مسمى "مخلفات النظام السابق"، قائلاً: "من مخلفات النظام السابق؟ من مخلفات النظام السابق؟ هم مخلفات النظام السابق".
وأعترف صالح لأول مرة في هذه المقابلة بأنه من "ربَّى" الإخوان وحلفائهم. قال: "نحن من ربّيناهم" وكررها أكثر من مرة مستخدما لفظة "ربّيناهم" بالذات، قبل أن يستدرك: "لكننا ما قدرنا نربيهم.. ما قدرنا نربيهم"، قالها بنبرة "الأب" القوي الذي تساهل في "تربية" أبنائه "الصُيِّع" بما تحمله كلمة "تربية" من معنى "التأديب". ولعله كان محقاً في ذلك. لكن، لم يبد أن "ربَّيناهم" حملت من الندم شيئاً يذكر قدرما بدا أنها كانت محملة أكثر بالإهانة، إهانة لإخوان اليمن وحلفائهم الحمر، وهذا أمر يمكن فهمه بالنظر إلى أن صالح لم يفكر على الأرجح ب"تأديبهم" يوماً، ربما لأنه لم يكن شريكهم في الحكم إلا بقدرما كان شريكهم في "قلّة التربية"، وإن كانوا قد فاقوه في "قلة كل شيء" كما اتضح لاحقاً بعد 2011! تصعيد صالح ضد الإخوان مثل على الأرجح مؤشرا على شعوره بالقوة، لكنه لم يكن المؤشر الوحيد. لقد استهدف تصعيده الإخوان بدرجة رئيسية، لكنه لم يوفر خصومه الآخرين كالحزب الإشتراكي وعلى رأسه الدكتور ياسين سعيد نعمان الذي قال إنه من أعاده إلى البلاد وقال له "أن يمسك أمين عام الإشتراكي"! وهذا تصريح خطير يدلي به صالح على حد علمي لأول مرة، ويمكننا أن نتوقع- نظرا لخطورته- ردا من الدكتور ياسين عليه.
كما لم يوفر خلفه الرئيس هادي الذي ألمح إلى دوره في حرب صيف 1994، وقال إن "الزمرة" هم من قاموا بنهب الجنوب في إطار تصفية الحسابات بينهم وبين "الطغمة". وبالطبع، كان للحراك الجنوبي نصيبه من تصعيد صالح، كما كان جمال بن عمر هدفاً آخر لتصعيده وربما سخريته أيضاً، إذ قال ما مفاده أنه سيصبر على مواقف المبعوث الأممي حتى ينهي مهمته ويرحل، ورافق كلامه ضحكة وحركة من يده بدا أنهما عكستا عدم إكتراثه كثيرا بمواقف بن عمر كي لا نقول تقليله من شأنه.
لابد أن لتدهور الأوضاع وفشل مؤتمر الحوار الوطني دورا فاعلا في توليد شعور صالح بالقوة، غير أن هذا لا يبدو العامل الوحيد. فحديث صالح لقناتي "آزال" و"اليمن اليوم"، المحسوبتين عليه، حمل إشارات عديدة على أن الرجل يمتلك أجندات مختلفة، سياسية وغيرها ربما، وهذا ما تشي به تصريحاته التي تكلم فيها من علٍ عن خصومه، وقلل من شأنهم قائلا إنهم "ليسوا سياسيين"، بل "مسيسين" فقط.
ويبدو، بشكل عام، أن خصوم صالح يمثلون اليوم أهم حلفائه، إنهم من أبقوه واقفاً على قدميه، ويبدو أنهم الآن بفشلهم الذريع وأخطائهم القاتلة يعيدونه شيئاً فشيئاً إلى المسرح بإعتباره "السياسي الوحيد المحترف" بينهم، هم مجموعة "المسيسين" الهواة والفاشلين جداً، إنهم "مخلفاته" التي لم يحسن "تربيتهم" على حد قوله. وفي وضع كهذا، لماذا قد لا يفكر رجل مثل صالح بالعودة إن بوجهه أو بوجه نجله أحمد الذي ليس سراً أن إسمه ظل على قائمة الترشيح المؤتمرية للرئاسة في أول إنتخابات قادمة؟
لكن، إلى أي مدى يمكننا النظر بجدية إلى تلويح صالح بإمكانية تكرار التجربة المصرية في إسقاط الإخوان، بإمكانية تكرارها في اليمن؟ قد يبدو الأمر مستبعدا بالنسبة للكثيرين منا، لكن "من يدري" فعلا؟
لاشيء مستحيل في الواقع، مع أنه يظل أمراً مستبعدا بالنسبة لي. فالفروق بين مصر واليمن كثيرة وكبيرة وتبدو حاسمة، وقد لا تكون أقل من ذلك بين الجماعتين الإسلاميتين في مصر واليمن. لكن، ألم يتحقق كل ما قاله صالح منذ مطلع 2011 فيما غرق خصومه الذين ركبوا ثورة الناس وثورة اليمن غرقوا في الأكاذيب والإنعدام التام للمسئولية والإحساس والقدرة حتى على استيعاب ما يجري؟ "من يدري"! "من يدري"!