كان العرب قبل مجئ الإسلام قبائلاً متناحرة بحيث كل قبيلة كانت منشغلة في حالها وتحالفاتها ومصالحها الضيقة، وكانت هناك دول وممالك وحضارة في الجنوب العربي من ارض الجزيرة وهو ما يعرف باسم اليمن آنذاك. إلا أن المحرك العام في كل بلاد العرب هو الصراع القبلي الطاغي- وخاصة قبيل مجئ رسالة الإسلام الخالدة. وبمجيء الإسلام بدأ العرب رحلتهم عبر الانتماء الإسلامي العام تارة والانتماء العربي الخاص تارة أخرى. فبمجئ هذا الدين السماوي توحد العرب مع غيرهم من شعوب الأرض، ووجدت القواسم المشتركة مثل توحد الأمة على عبادة اله واحد لا يشرك معه شي، وسلوكيات تعبدية واحدة مثل الصلوات والصيام والحج وغيرها من الشرائع التي يتساوى عندها الأبيض والأسود، العربي والأعجمي، فتوحدت الأمة الإسلامية على أساس الدين الذي استوعب كل ثقافات البشر، وصهر الجميع في بوتقة ثقافة الإسلام.. وكانت العراق حينها عاصمة الدنيا قادرة- بقواسم الإسلام المشتركة- على هضم كل تلك الاختلافات العرقية أو المذهبية أو حتى الدينية منها. فكان الجميع يتنفس برئة الإسلام، وتعايش الجميع بعدل الإسلام.
أتت بعدها الدولة العثمانية دولة الخلافة الإسلامية الجديدة وورثت دولة بني العباس البغدادية واستمرت في نهج الإسلام المشترك بين كل الناس عربهم وعجمهم، أسودهم وأبيضهم، فسادت وشادت وبلغت ما لم تبلغه سابقتها من المجد والسؤدد. في هذه المرحلة ساد بين الناس الانتماء الإسلامي العام، وكان هو الأساس المشترك بين المسلمين وحكامهم كانوا عربا أو ترك أو أيوبيين أو مماليك أو كرد أو غيرهم.
وبتمزق دولة الخلافة الإسلامية العثمانية سقط مفهوم الانتماء الإسلامي ومباشرة نشأ على إثره المفهوم القومي الخاص فنشأ لدى العرب مفهوم القومية العربية مع الأخذ بالاعتبار البعد الإسلامي المكمل للدور العربي. ونشأ هذا المفهوم مقابله عند كل المسلمين أتراك وإيرانيين وهنود وغيرهم من أبناء الدولة الإسلامية. فأصبح الانتماء الخاص للعرق، واللغة هو الأساس المشترك، والدور الإسلامي هو الدور المكمل. على المستوى العربي فان مفهوم الانتماء الخاص القائم على الانتماء العرقي واللغوي بقي بمعزل عن الواقع وليس له صلة في إزالة الحدود بين بلاد العرب فأصيب بشلل ذريع، اللهم بعض المحاولات والجهود والتي لم تكلل بالنجاح مثل الوحدة العربية بين مصر وسوريا ليكون ذلك نموذج كافي لكل العرب إن فكرة الانتماء الخاص على أساس اللغة والعرق العربي إنما هي فكرة في الأذهان لا تمت للواقع بصلة.
ثقافة الانتماء، الخاص للعرق واللغة، غزت بلاد الإسلام كلها وخاصة بلاد العرب. ولعدم نجاحها في بلاد العرب وكرد فقد نشأت ثقافة أخرى ألا وهي ثقافة التشتت والتغيير غير المرشد والخصوصي، والتي بدأت تغوص في مفاصل الفكر العربي زيادة في التشرذم والانقسام. فهل ستطول هذه الثقافة يوما ما كل دول المنطقة أم أنها ستبقى قاصرة على مجتمعات مثل العراق ولبنان وربما تركيا مستقبلا!؟ فمثلا العراق كانت عاصمة الدنيا وكانت تمثل الأمة الإسلامية والعربية كلها.. كانت قادرة على صهر وهضم كل تلك الفروقات، واليوم العراق غير قادر على استيعاب حتى الاختلافات العرقية والمذهبية والدينية بين أبنائه، وفي حدوده الضيقة. أصبح العراق مهدد بالتقسيم العرقي اليوم وربما المذهبي غدا أو الديني بعد غد. ومثال آخر اقل حدة هي دولة تركيا التي كانت في يوم ما مركز العالم الإسلامي والدنيا بأسرها، وأصبحت اليوم لا تمثل إلا نفسها بل يصور أنها غير قادرة على استيعاب ما لديها من أقليات وأعراق بعد أن كانت تدير كل ذلك بجد واقتدار عجيبين في كل بلاد الدنيا.
عربيا، نرى كل دول العالم من حولنا تتقارب مع بعضها في أطرها الجغرافية كانت أو التاريخية لإيجاد وخلق قواسم مشتركة ومصالح.. ونحن للأسف نقسم كل مشترك فيما بيننا، بل وكل مركز تجميع. على مستوى عالمنا العربي الكبير لم يعد يوجد في ثقافتنا انتماء إسلامي كان أو عربي بل إن هذه المفاهيم تقزمت وتفتت إلى مفاهيم اصغر وأكثر تشتت مثل مفهوم التغيير غير المرشد، ومفهوم التشرذم.
فهل ثقافة التشتت والتشرذم مقتصرة على بلد كالعراق وحدها أم إنها ستطول دول أخرى مستقبلا على صعيدنا العربي المحلي؟ هل ثقافة التشتت مصاب بها العرب دون غيرهم من شعوب الأرض؟ هل ثقافة التشتت العربي هذه تخدم مشروع عربي مستقبلي مجهول أو انه مشروع إسلامي كبير منتظر؟ أم إنها تمثيل واقعي لثقافة الضعف والتمزق الذي وصلنا له، بحيث تصبح هي لغة الحوار بين العرب أنفسهم لإضعاف بعضهم البعض؟ هل هو مشروع محلي أو أجنبي؟ الأيام المقبلة كفيلة بالرد الواضح.....!!