ذهبت في مهمة عمل إلى الصين، وتنقلت في أربع مدن صينية، واختتمتها في جزيرة هونج كونج ذات السيادة الصينية والإدارة الإنجليزية . رأيت الكثير والكثير جدا من نمط الحياة الصيني، لا أستطيع إلا أن أصفه بأنه عظيم ورائع.. لمَ لا ، وهو الشعب الذي بنى سور الصين العظيم- أحد عجائب الدنيا اليوم، والذي يزيد طوله عن ستة آلاف من الكيلومترات. وقد تم بناء ذلك السور في فترة تزيد عن مائتين وخمسون سنة. رغم المساحة الكبيرة للصين لكنها تبدو أنها تتناسب مع عدد السكان الهائل والذي تجاوز المليار وسبعمائة مليون نسمة- مثلما ذكرت المرشدة السياحية ذلك.. شوارعهم كبيرة جداً، تشبه في عرضها ساحة العروض في المكلا وصنعاء والحديدة! صادف وجودي هناك أبان انعقاد مؤتمر الحزب الشيوعي الصيني.. وكيف هي حالة حركة الناس والسياح بالقرب من مكان المؤتمر والساحة الحمراء المعروفة، والتي تظاهر فيها طلبة الجامعة قبل عدة سنوات وتصدت لهم الدبابات. وتلك كانت حادثة مشهورة يعرفها الكثير من متابعي أحداث الصين. في ذلك المكان تشاهد عشرات الألوف من الصباح حتى المساء، ليس احتفاء بالمؤتمر أو اعتراضاً عليه، إنما هم آتون للسياحة- لكن بعشرات الألوف، بل بمئات الألوف إن لم أبالغ- فالأعداد مهوله من داخل الصين وخارجها للإطلاع على المدينة الممنوعة من الدخول فيها بعد أن أصبحت غير ممنوعة. تصور تلك الألوف تأتي وتذهب في التاكسيات والحافلات، وصادف وجودها انعقاد المؤتمر، وتسير الأمور وكأن أعدادهم بالمئات فقط. لم استطع أن اقنع نفسي أن تلك الدولة شيوعية! ما أسمعه واقرأه أنها شيوعية التوجه اشتراكية الاقتصاد، ولكن الحقيقة هي اقرب للرأسمالية. وان عدت للتعليق على المؤتمر للحزب الشيوعي الصيني الحاكم الوحيد في الصين، فالملاحظ أن أحداث انعقاد المؤتمر تسير بشكل طبيعي بصرف النظر عن النتائج، وكذلك خارج المؤتمر الأمور تسير بشكل اعتيادي رغم أنها تمس مصير حياة الدولة والشعب في الصين. وفي هذا السياق تذكرت كيف كانت الأجواء عندنا في عدن عندما تنعقد اللجنة المركزية والمكتب السياسي آنذاك، شتان المقارنة بين هذا وذاك! وللأمانة الأدبية لم أكن متواجدا عند انعقاد أي مؤتمر للحزب الحاكم في اليمن، ولكنني لا أظنه يختلف كثيرا عن غيره حسب اعتقادي فليعذرني محبيه.. لا علينا من ذلك.. أعود للصين- تلك الدولة، وذلك الشعب العظيم. عندما تذهب إلى الأسواق أو المراكز التجارية تجد الجميع يرحب بك، ويسعى لكسبك وبأدب جم وبكياسة وفن في البيع.. هذه الصورة نجدها مقلوبة لدينا هنا وكأننا عندما نريد الشراء يتعامل معنا البائع وكأننا سنشتري بالمجان أو بالآجل! شتان بين البائع هنا والبائع هناك. وعودة على طريقة وأسلوب البائع فانه مهما كنت ذكيا وصاحب خبرة في البيع والشراء، ومهما كان غرضك من الجولة (قادم للفرجة فقط) فانك لابد أن تقع فريسة لأحدهم، واقصد هنا انك في الأخير تشتري وأنت لا تريد أن تشتري. رغم سفري لكثير من دول العالم لم أشاهد مراكز تجارية بهذه الضخامة! وتخيل نفسك تدخل اكبر مركز تجاري تعرفه أو سمعت عنه وفجأة تجده متداخل مع ثلاثة أو أربعه مراكز تجارية مثله أو أكبر منه، وتتوه ولا تعرف أين أنت!؟ شعب حي يعمل طوال الساعات التي حددها لنفسه.. مركز تجاري للأجهزة الالكترونية يعمل من العاشرة حتى العاشرة لا يوجد لديهم متسع من الوقت للاسترخاء بل لن تجد الكرسي حتى تفكر بأخذ قسط من الاستراحة وأنت تتجول في كثير من المحلات التجارية. رغم كثرة عدد سكان مدنهم وبالتالي كثرة مخلفاتهم فانك لن تجد ذلك المنظر الذي أصبح مألوفا في شوارعنا الصغيرة والكبيرة- اليمنية والعربية- فأي شعب هذا، وأي تربية تربى عليها ذاك الشعب..!؟ ليس للدين علاقة في ذلك، فهو شعب ليس له دين، وأرجو إلا يخلط علينا احد هذه المسألة. أحببت أن أتنقل من منطقه إلى أخرى في نفس المدينة وأمارس التجربة في الركوب في الحافلة (الباص) فلم أواجه مشكله بتاتا مثلما هي بعض المدن الأوربية.. الحافلة تأتي في موعدها المحدد بالضبط وبالثواني، وتتوقف في المكان المحدد، وستجد الناس واقفين طوابير منظمه كل حسب أولوية وصوله إلى موقف الحافلات، ولا يجوز أن تقف قبل الذي وصل قبلك، فيجب أن تأخذ دورك في الانتظار، ويجب أن تطمئن انك ستكون أحد الركاب. لذلك فلا داعي أن تتسابق مع الآخرين وتقدم نفسك عليهم، فهذا تصرف مشين ليس مرده إلا حب النفس، واعتقادك الخاطئ بأنك يجب أن تسبق الآخرين على غرار مثلنا الشعبي (من سبق لبق)!! فهذا المثل لا يبدو أن له مكاناً هناك، وكذلك ليست من الشطارة ولا من الذكاء استعمال عضلاتك هناك.. وعليك أن تعرف وتتذكرانك في بلاد الكونغ فو، وأن الكثير من الشعب الصيني لديه ما يفوقك من العضلات رغم إنهم يزيدون عن عمرك ضعفا. وعليك الاستعانة بالخريطة لمعرفة أماكن التوقف، فهذه هي الصين والكلام عنها يطول.. شئ لا يصدقه عقل أن يكون ذلك في الصين التي نعرف. فأين الاشتراكية والطبقة الكادحة التي نعرفها مما نرى!؟ بل أزيد من الشعر بيتا إنك لن تحس بالملل، فداخل الحافلة جهاز تلفزيون يعمل أيضا. وأرجو ألا يتصور البعض أنني أتنقل من مدينة إلى أخرى، أبدآ هذا الذي وصفته داخل المدينة نفسها وليس بين المدن. كنت قد قلت انه شعب يعمل، وشعب سخر وقته للعمل والإنتاج والبحث عن الرزق وإيجاده بكل الوسائل المشروعة. شعب لم نسمع في الأخبار في السنوات الماضية أنه أضرب عن العمل وامتنع عن العمل واحتج على أصحاب العمل..! شعب يبدو أنه لا يعرف التوقف عن الإنتاج، وأظن ما نطلق عليه هنا في الشرق من مصطلحات اعتصام واحتجاج وتظاهر هي غير مألوفة لديهم، أو لنقل غير مقبولة، أو غير منطقيه لذا فهم يتقدمون للأمام وبسرعة الصاروخ.. والحقيقة أن ذلك الشعب ولد ليعمل وينتج وليستفيد من إنتاجه البشر في كافة المعمورة.. الكبير والصغير يعمل بلا كلل..! شعب لا أظنه يعرف الكسل والاتكال على الغير.. شعب لا توجد فيه الكثير من الصفات والسلوكيات التي لدينا ولدى بعض الشعوب في أوروبا أيضا. على سبيل المثال فقط وللتدليل، فقد تعودت أن أسافر وفي كثير من البلدان وخصوصا العربية وبعض الدول الأوربية فانه من المستحسن أن تقدم ما يسمى البخشيش عند قدومك ومغادرتك الفندق، وعند طلبك أي وجبة داخل غرفة الفندق، ذلك التصرف أصبح طبيعيا لدى السائح القادم من الخارج.. غادرت الفندق في مدينة شنغهاي التجارية وأحببت (كالعادة) أن أقدم عند مغادرتي الفندق لحامل الشنط البقشيش، فرفض أن يأخذ شيئا مني وكان موقفا حرجا مررت به وكأنني قد أخطأت! وأنا هنا لن أخجل أن أشير إلى ذلك ليتعلم البعض كيف هي مستوى عزة النفس لدى هذا الشعب، رغم أن راتب ذلك الموظف العامل لن يزيد عن مائتي دولار بتاتا، بل أكاد أراهن إنه لن يصل إلى مائتي دولار وهذا متوسط دخل هذه الفئة في هذه المدينة. هذه الصورة تذكرني بصورة الذي حمل الشنط في فندق في المعلا في عدن قبل ست سنوات، وفي احد فنادق القاهرة في مصر العام الماضي، ولكن بشكل مقلوب! في تلك الحادثتين وقف العامل وقد اخذ البقشيش ولكنه وقف ليتأكد من المبلغ المقدم وعلى أساسه يقدم لي حجم وشكل الابتسامة. المرأة في الصين تبيع في المحلات وتعمل في المؤسسات والشركات، بل وتسوق التاكسيات، بل رأيتها تسوق اغلب حافلات النقل العام وسيارات الأجرة والنقل داخل المدن.. ورغم إطلاعي الشامل والمستمر فقد تعجبت أن أرى المرأة تقوم بقيادة المعدات الثقيلة ( القلاب)! الشعب الصيني شعب يقدس العمل، وأظنه يعتبره هو الدين، لذلك ليس غريبا أن نعرف أن الاقتصاد الصيني أسرع اقتصاد على وجه الأرض. لن تجد مشقة في التنقل ومعرفة ميزانية التنقل التي ستصرف، فجميع التاكسيات موجود فيها العداد، حيث يعمل بشكل أوتوماتيكي ولا تشغل بالك أبدا حيث عند وصولك المكان المحدد يقف العداد ويعطيك السائق الفاتورة مطبوعة بجهاز العداد، ويأخذ منك المبلغ ويعيد إليك الباقي لو كان جزءا بسيطا من عملتهم.. ولا تفكر بتاتا إنه سيأخذ منك المتبقي أو يطلب منك أو ينتظر منك زيادة عما هو مطبوع من طابعة العداد. لن أتحدث عن العمران والسباق لغزو الفضاء ليس بالمركبات الفضائية، ولكن بعلو وتعدد المباني وكثرتها وتكاد المباني التي تتكون من عشرين وثلاثين دورا صغيره أمام المباني الأعلى منها ولا ادري أين يريد أن يصل الصينيون!؟ والأروع هو جمال التنسيق والمنظر لتلك الأبراج وكأنهم يتنافسون على أجمل شكل هندسي، وأراهم في هونج كونج يستغلون كل المساحات. قلت لن أتحدث عن المباني والشوارع والمطارات ومدى ضخامة كل ذلك، فهذا شأن آخر!! لكنني أحببت هنا فقط أن أتحدث عن الإنسان، وسلوكه وأخلاقه وحياته وعمله وتقديسه للعمل والتزامه في العمل وحبه للعمل والابتكار.. فمن الطبيعي أن من يعمل، ويبتكر ويخترع، والعكس صحيح. كيف فعلا لو أردنا من الصينيين أن يأتوا إلى اليمن ونذهب نحن إلى الصين، ليحصل لدينا بعض التغيير فماذا عسى أن يحدث!؟ أولا ليس من المنطقي، وليس لدينا وقت كاف أن يأتي الصينيون إلى اليمن لان عدد واحد مليار وسبعمائة مليون حتى يكتمل نقلهم إلى اليمن يحتاجون إلى ما لا يقل عن ستة آلاف وخمسمائة سنة إذا ما نقلنا ألف صيني في اليوم وعلى اعتبار السنة أربعمائة يوم، وليست ثلاثمائة وخمسه وستون يوما.. سنواجه مشكلة عند النهاية أن السكان قد تضاعفوا بعد ستة آلاف وخمسمائة سنة وكأنك يا أبا زيد ما غزيت.. ! وفي هذه الحالة تصبح مساحة اليمن غير كافيه لذلك العدد. بعد تلك الفترة من الزمن وبعد تضاعف عدد سكان الصين لذا فأظنها فكرة غير موفقة! صحيح أن هذه الفكرة قد تعجب البعض والذي يريد أن يتخلص من شئ اسمه المعارضة. وآخر في نفسه شي سيفرح ليتخلص من الحكومة والرئيس، وثالث ربما يؤيد حتى ينهال الصينيون على شجر القات ونكون قد تخلصنا منه بسلام، وآخر يؤيد ويحلم أن تصبح اليمن دولة عظمى وصاحبة حق استخدام بطاقة الفيتو..! هناك عقبات كثيرة ستواجه مشروع نقل الصينيين إلى اليمن:اللغة، الدين، الطقس، وكذلك الدول المجاورة فلها حق القرار في الموضوع مثلما كان لنا حق القرار في قبول أو رفض فكرة نقل جبال من الثلج من القطب الجنوبي إلى جزيرة العرب عبر باب المندب- تلك فكرة قديمة أتذكرها، وأتذكر انه كان هناك امتعاض من الدول المحيطة في باب المندب خوفا على تغير حالة الطقس في المنطقة، لذا فقد تم إلغاء الفكرة في تلك الأيام. عموما إن فكرة نقل الصينيين إلى اليمن ستكون فكره غير موفقة.. لكن لو فكرنا في نقل اليمنيين إلى الصين وبنفس المعادلة من الحساب فإننا نحتاج إلى خمسة وخمسون سنة، وهو رقم يعتبر مقبولا في هذا العصر ويندرج تحت نفس معايير خطط الدول في هذا الزمان، حيث يتم التخطيط في عصرنا هذا بمدد عشرات السنين. لكن لا ادري هل سيتغير اليمنيون في هذه الحال!؟ ويقتبسون الكثير من السلوكيات الصينية، ونصبح شعب عملي منتج!؟ بصراحة هذه أمنية!! إن من غضب مني لطرح هذه الفكرة خوفا على مركزه ومصالحه ومزارع قاته فإنني أطمئنه أنها مجرد فكر فقط. قد يتم تنفيذها كأفكار وخطط ومشاريع، وقد يتم النقل فعلا ولكن ليس للبشر فليطمئن أصحاب المصالح. وأرجو ألا يقلق أهل اليمن، ومن يسكن في اليمن، ومن ينتمي إلى اليمن من عنوان المقال هذا، فقط قصدت أن أداعب القارئ وأبعده بعض الوقت عن السياسة وفنونها.. فاليمن والمنتمون إليه سيبقون في مكانهم اطمئنوا! والصينيون سيبقون مكانهم هناك أيضا في أقصى الشرق البعيد! لا تخافوا ولا أظنهم سيقبلون حتى بالتفكير في هذه الفكرة، ولكن نحن يبدو أننا سنقبل بالتفكير في هذه الفكرة وسنأخذ منها المفيد. لكن من أراد منكم أن يكون صينياً ويذهب إلى الصين فذلك قراره، وعلينا أن نستبدله بصيني يأتي إلى اليمن ويصبح يمنياً حتى لا يحدث هناك خلل في عدد السكان في الصين. [email protected]