ها أنذا وقد صرت ما تمنيته يوماً "مُعلِّماً".. يتحلَّقُ الطلاب حول طاولتي بعد انتهاء حصة الدرس كالفراش.. كم يثلج صدري ذلك . يصغون إلى ما أفوه به ويهابونه.. منهم من يجعلني أشعر بالعظمة والارتياح إذ أدرك أنّ ما أبذله من وقتٍ وجهدٍ في سبيل تعليمه وتوسيع مداركهِ لا يذهب سُدى .. ومنهم من يجعلني أتذكر أول درسٍ تعلمته على يد جدي " طيب الله ثراه " في تلك القرية الصغيرة " مسقط رأسي".. كان جدي حكيماً جداً... كانت له عينا صقر ٍ وبصيرة عرافٍ.. وكنت أهابه وأهاب ما يقوله– شأني شأن كل من عرفه– كأنما هو قضاء نزل من السماء.. ذلك اليوم مرّ عليَّ جدي وقد عاد من الوادي.. وكنت بصحبة حمارنا "الصبياني" نستظل تحت فيء شجرة "طلح".. شعرت بالخجل الشديد وسرت الرهبة في جسدي وقد تزامن قدوم جدي مع ضربي للحمار وأنا آمره أن يغني مثلما أغني.. لم أعد أذكر ما كنت أغنيه بيد أني أذكر ما قاله جدي لي..."ماذا تفعل..؟!" ارتبكت من سؤاله وحضوره وواريت العصا التي أضرب بها الحمار خلف ظهري وقلت "لاشيء يا جدي لاشيء.." كنت أقولها وأنا أتصبب عرقاً ووجهي محمرٌ من الخجل ومن الخوف، كانت فرائصي ترتعد.. ابتسم جدي ابتسامة سرت معها الطمأنينة في تضاريس وخلجات روحي ثم بادر قائلاً: " أُصدُقني ولا تخف.." .. شجعني ذلك وخفف من وتيرة قلقي فقلت: "جدي لا تغضب مني لقد سمعت الشيخ في الكتاتيب يقول أن من يريد أن يكون مُعلِّماً عندما يكبر فعليه أن يبدأ بتعليم من حوله.. وأن من يريد أن يكون طبيباً فعليه أن يهتم بمن حوله منذ الآن فذلك سيفيده عندما يكبر.. وأنا يا جدي أمنيتي هي أن أُصبح معلِّماً ولكني لا أجد أحداً حولي حتى أعلمه إلاّ حمارنا هذا.. وليس عندي ما أعلمه له سوى الغناء.." وهنا ضحك جدي من أعماقه بطريقة أدهشتني فهي الأولى التي أراه يضحك بهذه الطريقة ولم يسعني حيال ذلك سوى أن شاركته الضحك.. بعد ذلك همّ جدي بالمضي وقبل أن يتركني والحمار ربّت كتفي بحنان الجد وآثرني بنصيحة مازال صداها يتردد في أعماقي حتى اللحظة.. "يا بنيَّ لا تُعلِّم الحمار الغناء فتُضيّع وقتك وتُغضِب الحمار.."