من منا لا يتذكر أساتذته؟!! كلنا نعيش لحظات في حضن الماضي نتذكر أساتذتنا الذين تركوا بصماتهم في عقولنا وقلوبنا ورحلوا بأجسادهم لكنهم ماثلون لنا في كل مواقف الحياة... في حياتي الدراسية قامات من الأساتذة لن يتكرروا، لكل واحد منهم طعم ولون ورائحة تميزه عن غيره، متميزون خلقا وخلقا وعلما يجعلون الطلبة ينتظرون ساعة مقدمهم إلى قاعة الدرس، ويحزنون إذا انتهى موعد الدرس.. من هؤلاء أستاذي الجليل المرحوم الدكتور/ محمد عبده غانم، عرفته قبل الدرس على يديه من خلال ديوانه (شعر الغناء الصنعاني)، ثم تشرفت بالتلمذة على يديه عام 1982م في مادة (العروض وموسيقى الشعر).. كنا نحن الطلبة والطالبات متهيبين من هذه المادة لجفاف قواعدها، ولكن أستاذنا كان يقدمها بأجمل طريقة لتنمية التذوق الأدبي والموسيقي ..مازلت أتذكره في محاضراته؛ كان يجعل من محاضراته غذاء لغويا وعقليا وروحيا، حيث كان يختار لنا الأمثلة والتطبيقات من أجمل الشعر وأرقه.. كان يهتم بالجمال في كل شيء في الحياة ويؤكد علينا باستمرار بتذكيرنا في بدء المحاضرة بقول إيليا أبي ماضي: (كن جميلا ترى الوجود جميلا)، كان دقيقا في تقويم الحس الأدبي والموسيقي لدى الطلبة، كان يعرض التفعيلات للبحور الشعرية، وأمثلة عليها من أجمل محفوظاته، ثم يوجه الطلبة إلى البحث عن قصائد مما يقرئون ويحبون ويكتشفون بحورها وتفعيلاتها.. كان بعض الطلبة يختار كلاما موزونا جافا ينتمي إلى النظم وليس إلى الشعر، فلا يكتفي الأستاذ بتنفيذ المطلوب منه في التوجيه وإنما يقف وقفات مع الطلبة قائلا : (عندما تكون الحديقة مليئة بالورود فلا تشم إلا الورود النضرة الفواحة) ثم يوجه الطلبة إلى اختيار الأجمل والتطبيق عليه... كان بعض الطلبة والطالبات يتحرجون من القصائد الغزلية، لكن أستاذنا غير اتجاهاتهم باعتداله ووسطيته وتواضع العلماء الذي كان يتمتع به، وغرس في نفوسهم حب الجمال (جمال اللغة وجمال النفس وجمال المشاعر وجمال الأخلاق) لم يكن الأستاذ ممن يصدمون الطلاب والطالبات إذا أبدوا مشاعرهم، ولم يعاقبهم إذا وجهوا انتقاداتهم، كان يستوعب كل الأفكار وكل النماذج، كان يحب الطلبة المحاورين ويشاكسهم، ثم يأخذ كل محاور إلى الطريق الصحيح بالإقناع والتواضع ووضعه في خبرة الموازنة بين القيم والصفات والأخلاق ليختار الأجمل.. كان كل شيء يمكن أن يتم النقاش فيه مع الأستاذ دون خوف.. أذكر أن أحد الزملاء لم يكن يتذوق الشعر ولا موسيقى الشعر، وفي إحدى المحاضرات لاحظ الأستاذ شرود الزميل فدعاه باسمه، وطلب منه أن يذكر له أسماء المطربين الذين يستمع إليهم.. وانتعش الزميل، وأخبره أنه يسمع للمطرب الشعبي (علي حنش) فقال له الأستاذ: أسمعنا شيئا من أغانيه: فذكر له أغنية مازلت أذكر بيتا منها (كلما دق الهوا الباب قلت ذا المحبوب جاني)، واقترب الأستاذ من الطالب ووضع يده على كتفه وبلغة حانية أمره أن يغنيها، وارتبك الطالب لكنه نفذ الأمر والأستاذ يستمع ويبدي استمتاعه رغم أن صوت الطالب ومخارج أدائه كانت بعيدة كل البعد عن معايير الأستاذ، لكنه انتظر حتى أكمل الطالب غناءه وأمرنا بالاستماع رغما عنا، ثم أمر الطالب أن يستمع إلى الأغنية مرة أخرى في بيته ويقطعها عروضيا وينسبها إلى البحر الشعري المناسب، ومن يومها بدأنا نلحظ تغيرا في تذوق ذلك الطالب.. كنا نشعر أن الأستاذ يتضايق من الطلبة غير المتذوقين ولكنه لا يتركهم، كان يتابعهم ويعلمهم العروض وموسيقى الشعر بما يحبون من الشعر وبما يحفظون.. أتذكر أنه بعد أن اطمأن إلى أننا قد استوعبنا البحور الشعرية بدأ يعلمنا كيف نكتشف عيوب الوزن والقافية..لم يعرض قاعدة لهذه العيوب بل عرض علينا نماذج شعرية فيها بعض العيوب من حيث الوزن والقافية.. وطلب منا ترديدها أكثر من مرة واكتشاف الخلل، وأي طالب أو طالبة يكتشف الخلل يخبره بأنه قد ضمن درجة هذا الموضوع ولن يختبره فيه، وحينما سألناه أننا اكتشفنا الخطأ لكنا لا نعرف قاعدته ٌقال: (لا يهمني حفظ القاعدة المهم أنكم تمتلكون أذنا موسيقية تميز الخلل في الوزن والقافية). هكذا كان أستاذنا د/ محمد عبده غانم، وهكذا كان معظم الأساتذة في ذلك الزمن الجميل.. كنت أود لو تم دعوة بعض طلبة الدكتور غانم ليتحدثوا عن ذكرياتهم معه في الاحتفالية التي نظمتها وزارة الثقافة بعدن في 21/فبراير/2009 لتكريمه لكن الحظ لم يحالف أحدا منا، ومع ذلك لا يمكن أن ننسى أستاذا مازلنا نتنفس جماله كلما قرأنا شعرا جميلا، أو سمعنا موسيقى راقية... رحمه الله أستاذنا الجليل د/ محمد عبده غانم وجزاه عن طلبته الدرجات العلى في الفردوس الأعلى.. كلية التربية – جامعة صنعاء [email protected]