ألا تلاحظون وأنتم تقلبون القنوات الفضائية في هذا الشهر، الكم الهائل للمفتين؟! مشايخ من كل الدول العربية يتكلمون في كل شيء، الدين، السياسة، الاقتصاد، التاريخ، صراع الحضارات، التحديات الدولية، العلاقات الدولية، ليس للأمر حدود ولا جدران. الكل يطرح رؤيته وتفسيره للدين والحياة ويزعم أنه الصواب. أحاديث شتى بلا زمام ولا خطام، آراء متضاربة تجعل المسلمين البسطاء في بلبلة وحيرة من أمرهم، فيعمد العاقل منهم إلى ما يعرف من الدين ويترك ما لا يعرف فيكتفي بإيمانه وصلاته وصيامه وزكاته، ويترك ما اختلف فيه الناس. أحسب أن هؤلاء المشايخ الذين تملأ صورهم وأصواتهم حبات الأثير يسيئون للإسلام وإن كانوا يظنون أنهم يحسنون إليه صنعاً . فمن المعلوم من الدين الإسلامي كما جاء في الحديث النبوي : النهي عن القيل والقال وكثرة السؤال. لا شك أن من يتصل ويسأل يشارك بذلك في هذا الخطأ لكن من جلس يفتي الناس بهذه الجرأة يعرض عقله عليهم كل يوم هو الملوم الأول . فتاوى من كل نوع، فمن الفتاوى التي تتعلق بشؤون الحياة العادية وانتهاء بالحديث عن الإعجاز العلمي، هناك مفتون يتكلمون بجرأة لا أحسدهم عليها تضع الدين في مواجهة العلم. من هؤلاء متخصص في الجيولوجيا طار به البعض كل مطار، وما زالت القنوات الفضائية تدعوه وتفتح له مجال الكلام المفتوح في الهواء يسمعه العالم والجاهل، كيف لا وهو أكثر من توسع في إظهار جانب الإعجاز العلمي في القرآن. الإعجاز العلمي موضوع في غاية الخطورة وأنا ضد الخوض فيه لأنه ليس هناك مصلحة حقيقية تعود على المسلم من هذا الموضوع برمته، فالمؤمن لا يحتاج الجيولوجيا والفيزياء لتثبت له أنه على الحق ولن تزيده شيئاً، هذا من ناحية، ثم تفسير النص القرآني بناء على نظرية علمية فيه مجازفة، لأن النظرية العلمية قد يثبت العلم نفسه خطأها بعد حين من الزمن فننسب للإسلام ما لم يقله، وأنا أستمع له كنت أتمنى لو كان ما يقوله هذا الرجل صحيحاً وكنت سأفاخر بما يقول لكن ما عساني أن أقول وأنا أسمعه يفسر الآية الكريمة في سورة النمل (وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون). فقال "إن النظريات الحديثة في علم الجيولوجيا قد أثبتت هذه الحقيقة العلمية (أن الجبال ليست جامدة)!! ولو كلف نفسه قليلاً من العناء ونظر في سباق وسياق الآيات لوجدها تقول: (ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء ربك وكل آتوه داخرين * وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون * من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزعٍ يومئذٍ آمنون * ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون * إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين). من الواضح تماماً أن الآيات لا تتحدث عن حال الجبال في هذه الدنيا وإنما تتحدث عن حال الجبال في يوم القيامة، حيث العالم الغيبي المتعالي على التفسير العلمي والذي لا دخل للجيولوجيا ونظرياتها الحديثة به!! ماذا عساي أن أقول وأنا أسمع واعظاً آخر وهو يملأ الأسماع بالمغالطات التاريخية والتناقضات التي لا تبقي شاردة ولا واردة ويخرج لنا جيلاً من الوعاظ الجدد الذين ينقصهم الكثير من العلم. كيف يمكن أن أتقبل شخصاً مثل ذلك الشيخ الذي كان يفتينا في السنوات الماضية بجواز (خصي) المطربين اقتداء بالخليفة الأموي عبدالملك بن مروان وأن هذا التصرف الإجرامي الوحشي المناقض لأبسط حقوق الإنسان الذي يدعو إليه يعتبر من الاقتداء بالسلف الصالح!!! واليوم نراه يظهر في قناة الإل بي سي اللبنانية الفضائية، أقل حدة وأكثر تبسماً دون أن يكلف خاطره أن يقول إنه كان مخطئاً عندما أصدر فتوى (الخصاء) تلك وهو يجلس في قناة معظم برامجها الغناء والتمثيل والرقص، ثم تظهر بعده فتاة كاشفة عن أغلب صدرها لتقول لنا (وهلا لننتقل للرحاب الطاهرة لننقلكن صلاة العشاء والتراويح) !! ثم ما هو شعور (الزميل المغني اللبناني مروان خوري) وهو يعلم أن أحد زملائه في القناة يخفي له مثل هذه النوايا القاسية !! الأمر تطور كثيراً فأصبح الشيخ يظهر في دعاية لبرنامجه تشبه تماماً إلى حد كبير الدعايات لأفلام النجوم السينمائية، كم هو مؤسف هذا الحال، لقد أصبح الشيخ (سوبر ستار)!! هناك شيء ما، خطأ يحدث.. وهذا الخطأ لا يجوز بحال السكوت عنه ولا بد من تنظيم لظهور رجل الدين في التلفزيون بحيث لا يظهر إلا من احتسب الأجر عند الله واتقى الله فيما يقول وكان عاقلاً عارفاً بما يخرج من رأسه، فما نراه اليوم هو سباق محموم على المادة والنجومية من خلال الوكالة عن الدين، ولو كان من يسعى للنجومية رساماً أو نحاتاً أو روائياً لما لمته بشيء، لكن أن يكون التحدث باسم الله هو وسيلة النجومية ووسيلة للوصول للمال فهذا عمل مذموم. إنني أربأ بالمشايخ، الصادق منهم، أن يكون هم الواحد منهم التكسب بالدين، فالكسب مطلب مشروع ولا غبار عليه ولا خير في رجل لا يحسن أن يكتسب من عمل شريف, لكن عندما يكون التكسب وسيلته الدين يكون الأمر قبيحاً جد قبيح، أقبح ما يكون القبح. عن/ الوطن