* ما يحدث الآن في صعدة، أو مايعد من سيناريوهات مشابهة في الجنوب، يجعل من الأهمية بمكان أن نتوقف قليلاً، ونقرأ بتمعن تجربة سيريلانكا مع منظمة نمور التاميل الإرهابية. "فقدنا الكثير من الفرص"- بحسرة يتحدث نافين ديسانافيك، وزير تنشيط الإستثمار السيريلانكي، لماريان فان زيلر، مراسلة البرنامج الوثائقي "الطلائع" (VANGUARD)، في الحلقة التي بثت في الولاياتالمتحدة بتاريخ 4 نوفمبر، 2009 م- ويضيف: "كان من الممكن بسهولة أن نكون الآن سنغافورة، أو ماليزيا أخرى . . كان بالإمكان أن نكون الآن نموذجا مثالياً للتطور والحكم المثالي والشفافية . . بل وأن نكون أفضل دولة في جنوب شرق آسيا . . لولا هذه الحرب!!" وإذا كانت اليمن قد بدأت صراعها المسلح مع الحوثية منذ بضع سنين، فإن الصراع السيرلانكي قد امتد لعقدين ونصف. والأسئلة المطروحة الآن: كيف بدأ هذا الصراع؟ ولماذا طال أمده؟ وكيف تمكنت الحكومة السيريلانكية أخيراً من القضاء على تلك المنظمة الإنفصالية، الإرهابية؟ سيلاحظ القارئ أوجه التشابه الكبير بين ما يجري حاليا في اليمن، وما حدث في سيريلانكا، في سياق الإجابة على تلك التساؤلات!! كمعظم التنظيمات و الجماعات المسلحة حول العالم، المناهضة لحكوماتها، بدأت جماعة نمور التاميل نشاطها "كحراك" شعبي من قبل الأقلية الهندوسية (يمثلون--بحسب المصادر--ما يقارب 20 % من إجمالي عدد سكان سيريلانكا) بحجة الحصول على حقوق التاميل المسلوبة (والذين يتركزون في الإقليمين الشمالي والشرقي للبلاد)، واصفين معاملة الحكومة لهم بأنها لمواطنين من الدرجة الثانية، مدعين أن "السنهاليين" (والذين يمثلون 80 % من السكان) يسيطرون على مؤسسات و مقدرات الدولة. ما لبثت في ضوء ذلك أن تشكلت منظمة نمور التاميل (LTTE)، والتي تحولت في غضون سنوات قليلة إلى واحدة من أكبر المنظمات الإرهابية خطراً على مستوى العالم، استطاعت خلالها تكوين ميليشيا ذات تدريب عالي (أشبه ما تكون بالجيش النظامي)، واستفادت من وجود مناطق غابات كثيفة تعيق حركة وتقدم الجيش الحكومي، كما تمكنت من ابتكار أساليب عديدة للحصول على الدعم المالي من مهاجري التاميل وكذا المتعاطفين مع الجماعة في الدول الغربية والهند. ولم يتورع نمور التاميل عن الزج بالأطفال في الحرب، وإجبار الأهالي في المناطق الواقعة تحت سيطرتهم على تجنيد أبنائها في صفوفه، كما يعد التاميل أول من اخترع الحزام الناسف، وبرعوا في استخدام التفجيرات الإنتحارية، لإرهاب السكان، وقتل المناوئين و المدنيين على السواء (وهو تكتيك ما لبثت الجماعات الإرهابية حول العالم، وفي مقدمتها القاعدة، استخدامه ضد الأبرياء). كما تمكنت المنظمة من بناء ذراع إعلامي قوي، عن طريق البث الإذاعي والتليفزيوني، وكذا رعاية مواقع على شبكة الإنترنت. وبالرغم من الخطر الذي بات يشكله نمور التاميل، إلا أن حكومات سيريلانكية متعاقبة فشلت في حسم النزاع، بل إنها لجأت إلى جولات من التفاوض مع المتمردين، كانت تنتهي بالفشل، و يستغلها التاميل لتعزيز سيطرتهم على مزيد من الأراضي، وتقوية موقفهم في أي مفاوضات، حتى وصلت الأراضي التي يسيطرون عليها-بحسب المصادر- إلى 15,000 كيلو متر مربع في عام 2002 م، مع بداية آخر جولات التفاوض (برعاية دولية)، وتمخض عن هذه الجولة إعلان وقف إطلاق النار بين الطرفين. وفي مبادرة لحل النزاع (تشبه كثيراً الدعوات التي نسمعها اليوم في اليمن لإقامة حكم فيدرالي أو كونفيدرالي)، أعلن نمور التاميل عام 2003 م تراجعهم عن إقامة دولة مستقلة مقابل الحصول على الحكم الذاتي للإقليم الواقع تحت سيطرته.. وكما هو متوقع، فقد لاقت المبادرة قبولاًً واسعاً لدى المجتمع الدولي، إلا أن الرئيس السيريلانكي، في خطوة جريئة رفض تلك المبادرة، كونها ستؤدي إلى إنفصال الإقليم لاحقاً. إلا أن عام 2006 م شكَّل مفترقاً هاماً في الصراع المرير، فبعد تعهد الرئيس السيريلانكي--ماهيندا راجاباكسا--بتخليص البلد من تلك المنظمة الإرهابية، أعلنت الحكومة السيريلانكية الجديدة إيقاف العمل بوقف إطلاق النار، وأقرت أن الحل العسكري--وحده--هو القادرعلى الخروج بالبلاد من أزمة طال أمدها، وعطلت التنمية، وبالتالي أكدت سيريلانكا استئناف العمليات العسكرية، والقضاء على نمور التاميل مهما كلفها الأمر.. و بدأت على إثر ذلك جولة جديدة وشرشة من القتال، واختبار لمدى قدرة الرئيس السيريلانكي وحكومته على الوفاء بوعودهما، وقطع دابر التمرد بشكل نهائي. في غضون ذلك، فرضت الحكومة السيريلانكية سيطرتها الكاملة على جميع وسائل الإعلام، وتم حظر دخول منطقة العمليات العسكرية على مراسلي الشبكات الإعلامية، بل إن الحظر شمل أيضاً المنضمات الإنسانية (والتي لا يخفى بعدها الإستخباري على المطلعين).. كما قامت الحكومة بحملة ضد وسائل الإعلام الخاصة، وكل من شكك بأهمية و أهداف الحرب المتمثلة في الخلاص من خطر نمور التاميل، والتفرغ بعد ذلك للحاق بركب التنمية في منطقة جنوبي شرق آسيا خصوصاً، والعالم المتحضر عموماً. ترافقت تلك الحملة العسكرية (كما ظهر ذلك جلياً في البرنامج الوثائقي الأمريكي) مع دعم شعبي كبير.. حيث قام المواطنون بتعليق صور لرئيس البلاد و الجنود على السيارات، وزاد إقبال المواطنين على شراء الأغاني الحماسية.. "شكراً للجنود اللذين يحررون أرضنا"، كتب على إحدى هذه الملصقات.. ورغم الحظر الإعلامي، بدأت مشاهد القتلى--خصوصاً من المدنيين--تتسرب من منطقة العمليات بواسطة التاميل عبر مواقعهم الإلترونية، وبدأ الكثيرمن المتعاطفين مع التاميل التشكيك في الثمن الباهض لتلك الحرب، بل وتهمون الحكومة بعدم الإكتراث للمدنيين المحاصرين في منطقة القتال بدون حماية أو طعام--على الرغم من التقارير التي أشارت إلى إستخدام نمور التاميل للمدنيين كدروع بشرية، وعدم السماح لهم بالنزوح لمناطق آمنة..فلاحت في الأفق معالم كارثة إنسانية حقيقية..ما دعا الأممالمتحدة، و المجتمع الدولي لإطلاق نداء لوقف إطلق النار.. إلا أن الحكومة السيريلانكية رفضت الخضوع لتلك الضغوط.. "الحرب قذرة، وسيئة"، يقول الوزير السيريلانكي، ويردف قائلاً: "لكن لا يمكن أن تكون الحكومة ضعيفة.. من حق الحكومة الحفاظ على البلاد". أخيراً وفي 16 مايو 2009م، أعلن الرئيس السيريلانكي النصر، وقطع التلفزيون الرسمي برامجه المعتاده بعد ذلك بيومين ليعلن مقتل فيلوبيلا برابها كاران، زعيم الجماعة الإرهابية..
وبهذا تكون سيريلانكا قد أسدلت الستار على صراع مأساوي راح ضحيته مايزيد عن مائة ألف قتيل.. صراع ما كان لينتهي لولا القرار الشجاع للرئيس والحكومة السيريلانكية بالقضاء على التمرد مهما كانت الخسائر.. لأن الإستقرار هو مفتاح التقدم لأي مجتمع، ولا بد أن ترعاه حكومة قوية وصلبة في مواجهة التحديات الداخلية، والضغوط الخارجية التي قد لا تعي تماما خطورة ما يجري على الأرض، لاعتمادها في الغالب على تقارير من مصادر تعمل على تشويه الحقائق ، لأسباب مختلفة.. لا يتسع المجال هنا لذكرها.. * (معظم المعلومات مستقاة من البرنامج الوثائقي الأمريكي الوارد تسميته في صدر التقرير) [email protected]