يمكننا القول بداية أن الحراك الجنوبي لم يعد بتلك الصورة التي ولد عليها ليكسب تعاطف معظم اليمنيين الذين رأوا فيه ضالتهم كقناة للتعبير عن حالة "عدم الرضا" الناجمة عن "نقص المناعة" الوطنية والمسؤولية، التي أصابت رجال صنع القرار وأرباب السلطة في البلاد. وحتى لا يغضب الحراكيون.. سأحاول توضيح ما جعلني التوصل إلى ما أمكن قوله سلفا، وهو أن الحراك ظهر كحركة حقوق ورائها مطالب اتخذت من أسلوب الجماعة المتمثل في وحدة الغاية أو المطلب أساسا في إنطلاقها وسار من الشارع كتعبير عن جدية التوجه وبسقف مطالب "معقولة".. انطلاقا من المثل القائل "إذا أردت أن تطاع فأمر بما يستطاع". بعد ذلك ساهمت تصرفات اتخذت بناء على قرارات غير مدروسة من قبل السلطات لمواجهة الحراك وكبح جماح لاحتمال توسع شعبيته، في حينها، في إتاحة الفرصة لمستفيدين باختراق صفوف الحراك المطلبي السلمي ليزيح سقف المطالب و يجعل من (الفعل ورد الفعل و الطيش والإنفعال و الإرتجال) قواعد يسير عليها أنصار الحراك و آبائه الروحيين ودخلاءه أيضا. حتى لم يعد يعرف الحراكيون أنفسهم ماذا يريدون من الحراك!. وحينها صار من في الحراك يبحثون عن مظلة تعيد لملمة شتاتهم، ونظرا لتضارب أهداف من أصبحوا يقودون دفته واختلاف توجهاتهم فلم يجدوا حلا إلا في المطالبة بما يسمونه فك الإرتباط ليصبح هدفا تحقيقه بعيد المنال حتى بعيون أرباب الحراك. حاليا يعيش الحراك في تخبط واضح. ليس فقط في خطابه الإعلامي الذي يرى تارة عدائية الحراك في المحافظات الجنوبية تكمن في الأرض، وهو ما يمثل دعوتهم بالإنفصال و تارة يقدم عدائية الحراك بالمناطقية، وهو يتمثل في المصطلحات التي يستخدمها ك"نظام صنعاء، الإحتلال الشمالي، والدحابشة" وتارة أخرى يرى عدائية الحراك بالمذهبية أو الطائفية وهو المتمثل في استخدام إعلام الحراك للفظ "الزيود" (كناية عن المذهب الزيدي).. فضلا عن مكوناته التي زادت عن أربعة تيارات مختلفة فضلا عن مراكز قوى "شخصية" متعددة. والتعدد الذي يمكن تسميته ب"غير التوافقي"، الذي يعيشه الحراك "غير محمود" له وسط ضبابية في مصير المطالب، التي ظهر من أجلها و المطالب التي يدعو لها، وهو الأمر الذي يجعل توحيد الجهود و الغايات والرؤى بين مكوناته - خاصة بعد فشل حوار تمهيدي كان مقررا عقده- أكبر تحد يواجهه الحراك في الوقت الحالي. مطلب "فك الإرتباط " لماذا يحسب كمطلب "إنفعالي" وغير عقلاني، لأنه منطقيا لا يمكن أن يفسر إلا بوجهين وهما إما بأنانية الأهداف والمطالب التي تريد أن تحصر معاناة الشعب اليمني بكافة محافظاته على جنوبه فقط، مع العلم أن من بين المحافظات الشمالية من يعيش سكانها أوضاعا أسوء بكثير مما يعيشه أبناء المحافظات الجنوبية أو بالوجه الثاني وهو أن تأتي هذه المطالبة كرد فعل إنفعالي لتصرفات محسوبة على أصحاب قرار في السلطة. ما يعني أن من يقف وراء هذه المطالبة يرى أن أية أخطاء ترتكبها السلطة أو النظام يتحملها المواطنين من أبناء المحافظات الشمالية.. وهذا حكم غير عقلاني. التطرف في مطلب "الإنفصال" يكمن في كونه يقتضي بضرب مصير شعب بأكمله عرض الحائط، وعلى كل لا يمكن أن تغلب مصلحة نحو مائة ألف مواطن مصلحة ما يزيد عن 22 مليون نسمة. عشق الكثيرين للحراك وقت ظهوره لم يكن فقط نكاية بالسلطة "عديمة المسؤولية" وإنما لكونه جاء كنقطة تحول جديدة لمقارعة استمراء الظلم واستفحال الفساد وسياسة تهميش الآخر و التعبير عن حالة عدم الرضا بصورة معلنة بدلا من التعبير عن ذلك في دواوين المقيل والغرف المغلقة. ما يدل على أن الكادحين من أبناء هذا الشعب ، وهم كثر، قد وجدوا ضالتهم في الحراك حين كان "زنجبيلا بغباره" هو ظهور كيانات محاكية له، ومن ذلك ظهور حراك أبناء المحافظات الوسطى و حراك أبناء المحافظات الصحراوية كمأرب والجوف وشبوة و غيرها من " الحراكات". الآن لم نعد نعشق الحراك الذي يتخذ من منطق إثارة الحقد والكراهية و العنف على كل ما هو "غير جنوبي" أسلوبا للوصول إلى غايته بل أصبح يثير تخوفنا من ما يحمله مستقبل أطفال "الحراكيين". أنا هنا لست بصدد تسجيل موقف مع أو ضد وإنما هو تقييم من مراقب ومتابع لمسيرة الحراك، الذي أدعوه تياره من العقلاء غير الإنفعاليين إلى الخروج بموقف مسؤول من كل ما ينسب له من أعمال. لا تختلف كثيرا عن الأعمال التي ولد الحراك لمقارعتها. هذه دعوة للحراك بالتعقل. فلا يمكن أن يعيش إنسان بعد أن يتنازل عن أعضائه وأجزائه الواحد تلو الآخر. يجب على مهندسيه التحديد بشكل جيد "الخصم"، الذي يعتقد أن يكون في سلطة يمكن العمل على تقييم إعوجاجها أو حتى تغييرها بالطرق السلمية و المعروفة.. لا أن يعادي أرضا وشعبا و إنسانا. [email protected]