بعد الكتاب الأخير للمؤرخ والمفكر الفرنسي ألكسندر أدلر «موعد مع الإسلام» الذي يؤكد فيه على أن «إصلاح الإسلام» باستيعابه لقيم الحداثة وتصالحه مع الديموقراطية لن يتم في العالم العربي وإنما خارجه (تركيا وإيران). يأتي الآن كتاب الكاتب والأكاديمي الكوسوفي د. ملازم كراسنيشي (الأستاذ في جامعة بريشتينا) ليؤكد أيضاً على «عقم» أفق الإسلام في العالم العربي وعلى «أمل» جديد للإسلام في الغرب. في كتابه الجديد «العنف والحضارة الغربية: الإسلام كبداية للتاريخ» الصادر مؤخراً في سكوبيه (دار لوغوس 2006) يلاحظ جانبان مختلفان الآن ولكن يمكن أن يكونا على اتفاق في المستقبل، ألا وهما العنف والغرب من ناحية والغرب والإسلام من ناحية أخرى. فنواة الكتاب كما يقول المؤلف تعود إلى 2001م، التي لا تعني هنا فقط تفجير مركز التجارة العالمي في نيويورك من قبل «القاعدة» ، وإنما العنف في الحضارة الغربية أيضاً. وهكذا فقد تكامل الكتاب في السنوات الأخيرة التي كانت فيها الكتابات تتصاعد ضد الإسلام كمصدر للعنف والإرهاب لتصل إلى تنميط غير مسبوق للإسلام والمسلمين. وهكذا يعترف د. كراسنيشي أن نواة الكتاب تعود إلى 2001م مع قراءة تقرير لوكالة «رويترز» عن ندوة لعلماء النفس الأوربيين حول العنف، حيث انتهت إلى أن العنف «جزء لا يتجزأ من الحضارة الغربية وأنه عامل من عوامل التقدم في هذه الحضارة». وبناء على ذلك فقد سعى كراسنيشي إلى الغوص في التراث الفلسفي والفكري والديني والسياسي لأوروبا كي يصل إلى مصادر ومكونات هذا العنف المرادف لأقوى حضارة كما يقال الآن. وهكذا جال د. كراسنيشي في التراث اليوناني والروماني والبيزنطي والقروسطي الأوروبي وصولاً إلى إسبانيا الحديثة الذي يتمثل في تعظيم وتبرير العنف ضد الآخر. ويستشهد هنا بالقتل الجماعي للمسيحيين في الدولة الرومانية وللهراطقة (من المذاهب المسيحية الأخرى) في الدولة البيزنطية ولليهود والمسلمين في إسبانيا الحديثة وصولاً إلى ممارسات الدول الأوروبية الاستعمارية في العالم الجديد (ضد السكان المحليين) وأفريقيا وجنوب شرق آسيا إلخ. وفي هذا السياق يستكمل د. كراسنيشي جولته في القرن العشرين بالعنف الذي وصل إلى ذروته مع النازية والبلشفية في أوروبا ذاتها ضد أصحاب الرأي الآخر أو «الأعداء»... إلخ. ومع هكذا «تراث» عريق عبر التاريخ القديم والوسيط والحديث يصل د. كراسنيشي إلى مطلع القرن الواحد والعشرين، وبالتحديد إلى الحرب الجديدة التي تشنها الولاياتالمتحدة والغرب على العالم الإسلامي من أفغانستان إلى المغرب مروراً بالبوسنة وكوسوفو. ويلاحظ هنا د. كراسنيشي أن هذه الحرب (التي قد يشتمل السيناريو الخاص بالبلقان على تفكيك الإسلام deislamization على اعتبار أن أوروبا يجب أن تبقى مسيحية) إنما تجرى تحت سببين معلنين: استئصال الإرهاب ونشر الديموقراطية. ومع نقده وتفنيده لهذه الحرب ينتقل د. كراسنيشي بالتدريج من الجانب الأول إلى الجانب الثاني من الكتاب، الذي يهمنا في شكل خاص. فمع اعترافه بأن الحضارة الغربية، التي يقودها التحالف الانغلو أميركي، أصبحت مسيطرة على الجزء الأكبر من العالم ولا تزال تسعى إلى فرض نفسها كنموذج عالمي، وهو ما اعتبره فوكوياما وغيره «نهاية التاريخ»، يصل د. كراسنيشي إلى نتيجة معاكسة تقول ببداية جديدة للتاريخ تقوم على علاقة جديدة بين الغرب والإسلام. في هذا السياق يميز د. كراسنيشي ما بين الإسلام الأصلي (القائم على الوحي الإلهي) وما بين الإسلام الممارس من قبل أفراد أو جماعات تفرض وصايتها على الإسلام و»تحتكر» فهمه وتفسيره، وتفرض ذلك على بقية المسلمين في العالم. ولكن حتى «الإرهاب» (المنسوب إلى الإسلام) الذي يستخدمه الغرب الآن حجة للهجوم على العالم العربي الإسلامي لا يراه د. كراسنيشي خارج العلاقة الإشكالية مع الغرب. ف «الإرهاب» الموجود قد انفجر في العالم العربي الإسلامي نتيجة «إخفاق» و»فشل» و»إحباط» التطلعات المحلية والقومية للشعوب المسلمة، بالإضافة إلى دور الغرب في خلق ودعم إسرائيل في قلب العالم العربي الإسلامي. ومن ناحية أخرى فإن «الإرهاب» المتصاعد في السنوات الأخيرة إنما كان يتعلم من الإرهاب الموجود في الغرب خلال العقود الأخيرة (الألوية الحمراء أو الجيش الجمهوري الإيرلندي ومنظمة ايتا الباسكية إلخ). ومع ذلك يرى د. كراسنيشي بعد كل ما حدث في الماضي القريب أنه من مصلحة الغرب أن يفتح صفحة جديدة مع الإسلام تنطلق من التمييز ما بين الإسلام الأصيل (القائم على الوحي الإلهي ) وما بين المسلمين المختلفين في أرجاء الأرض. وفي هذا الإطار يقدم د. كراسنيشي صورة قاتمة عن تجربة العرب والإسلام لينتهي على أنه لا مستقبل للإسلام هنا (في العالم العربي) وإنما المستقبل للإسلام في الغرب حيث يمكن أن تنسج علاقة جديدة تصبح فيها الحضارة الغربية « حاملة» للاسلام الحضاري الجديد( ص 27). وللتأكيد على صحة هذه الرؤية يذكّر د. كراسنيشي القراء بأن الإسلام وصل إلى قمة عطائه الحضاري في جنوب غربي أوروبا (الأندلس) بالذات، وفي هذه القارة يمكن له أن يزدهر من جديد. ومن الواضح أن المقصود هنا جنوب شرقي أوروبا (البلقان) حيث يستعد د. كراسنيشي وزملاؤه الآن لإقامة ندوة دولية عن «الإسلام والألبان بعد ستة قرون». وبعبارة أخرى فإن الإسلام أخذ ينتشر في البلقان في الوقت الذي تلاشى فيه المسلمون في الأندلس، أي أن الوجود الإسلامي في أوروبا متواصل وحتى أنه يستند إلى تراث مغاير لما هو عند الآخرين (العرب وغيرهم). وفيما يتعلق بالعرب تحديداً يلاحظ عند د. كراسنيشي، كما في بعض الكتب الصادرة مؤخراً في الغرب، نزعة قوية لفك هذا «الاحتكار» العربي لفهم وتفسير الإسلام. فمع توقف الفتوحات وانحسار الاسلام من الاندلس، وفق تفسيره، أخذ الاسلام يرتبط أكثر بالعرب مما أنتج جموداً وانحطاطاً استمر قروناً عدة حتى الآن. وبالاستناد الى ذلك يرى د. كراسنيشي أن السياق العربي الثقافي والاجتماعي، الذي فرض نفسه على فهم وتفسير الإسلام، لا يصلح الآن أن يكون نموذجاً حضارياً جاذباً للعالم المعاصر. ويستشهد د. كراسنيشي بالحالة المتردية لحقوق الإنسان في دول عدة بالإسم (الجزائر ومصر واليمن والسودان والأردن وسورية)، كما وينتقد «استخدام» الإسلام لخدمة مصالح الأنظمة القائمة إلخ. ومع أن د. كراسنيشي لا يبرر اختياره لهذه الدول بالذات دون غيرها، مع الاختلاف الواضح فيما بينها ومع غيرها، إلا أنه من المؤكد أنه لا يعرفها عن قرب (سوى تونس التي زارها مع مجموعة سياحية وكتب فيها قصيدة من وحي آثار قرطاجة) وأن توصيفه لها ناتج من انطباعات من بعيد أو من خلال قراءات لآخرين ، وبالتالي لايميز ما فيها من حراك فكري وسياسي وما فيها من تمايز بين الاسلام الرسمي المرتبط بالأنظمة القائمة وبين الإسلام الجديد الصاعد بتياراته المختلفة. وعلى أي حال أن ما يقوله د.كراسنيشي مهم من ناحية ومقلق من ناحية أخرى. ففي مقدمة كتابه (ص 9) يعرف نفسه لأول مرة بأنه «داعية» للإسلام إضافة إلى كونه كاتباً صحافياً وأستاذاً جامعياً (في قسم اللغة الألبانية وأدبها). ومن هنا فإن الكتاب ليس دراسة أكاديمية لأستاذ جامعي بقدر ما هو رسالة ل «داعية» يبشر ب « نهاية التاريخ « التي ارتبط فيها الاسلام بالعرب و « بداية التاريخ» التي تعني هنا ازدهاراً جديداً للإسلام يقوم على قبول الحضارة الغربية به (كوحي الهي) حيث يمكن للإسلام أن يزدهر حضارياً كما ازدهر في الاندلس وفي البلقان في السابق. وفي هذه الحال فإن الازدهار الجديد للإسلام (على افتراض ان تكون الحضارة الغربية « حاملة» له) يمكن أن يعم العرب وغيرهم من المسلمين (ص 27). مايقوله د. كراسنيشي مهم ومقلق لأنه يعبر عن أفكار ورؤى لجيل جديد من المثقفين المسلمين في البلقان الذين أعادوا تكوين أنفسهم في السنوات الاخيرة( بعد سقوط الأنظمة الشيوعية وتصاعد الحملات على الإسلام) في شكل مختلف عن الاجيال السابقة من « العلماء «الذين كانوا يمثلون المسلمين هناك . فمع هذا الجيل نرى عند البعض( كما هو الأمر في هذا الكتاب ) نزعة واضحة لقطيعة فكرية وثقافية مع العرب بعد قرون من التواصل والتفاعل بين الطرفين. وللأسف فإن تمثيل العرب في البلقان خلال السنوات الأخيرة كان يرتبط في الغالب ب « الجمعيات الخيرية» التي انتشرت ونشرت معها صورة غير مشجعة عن الاسلام الموجود في العالم العربي. ومن هنا فإنه من الضروري ، بعد مراجعة صريحة لعمل تلك الجمعيات ، ان تكون هناك مبادرات بين المثقفين المسلمين هنا وهناك للتواصل المباشر للتعرف على واقع الحال هنا وهناك والتفكير المشترك فيما يمكن القيام به لأجل تخليص الإسلام من بعض المسلمين الذين يحتكرون أو يدعون تمثيله ويفرضون ذلك على الاخرين.