الحروب ألد أعداء الآثار والتراث الإنساني. وقد تفنن الإنسان في صناعة أشد الأسلحة فتكا وتدميرا وحتى الذكية منها تصوب خصيصا لتدمير التراث والآثار التي ظلت شواهد لحقب تاريخية من حياة الإنسان. ولكن الحروب ليست وحدها من يسيء إلى الآثار. فقد تتولد نزعات داخل المجتمع الواحد تدفع بمجموعة منه إلى السعي نحو محو آثار المجموعات الأخرى خدمة لأغراض سياسية وتاريخية. ويعمل الجهل وعدم المعرفة إلى ضياع الموروث الحضاري إلى الأبد من خلال عدم الإكتراث بالقيمة الفعلية للآثار بل والنظر إليها باعتبارها مخلفات من الأفضل التخلص منها. وإذا كانت الأسباب السابقة لا تفترض إلا نتيجة سلبية تقع على الآثار، فإن وضع التنمية والمشاريع التنموية ضمن قائمة الأسباب التي تأتي بالدمار على الآثار يمثل منعطفا خطيرا ينبغي الوقوف عنده. لا أحد يشك في مقولة المعري «وما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد» خاصة عندما يتيقن المرء بأن أمما كثيرة سبقته. هذه الأمم خلفت مع رفاتها الذي حسب قول المعري أصبح جزءا من وجه الأرض تراثا وآثارا يدل عليها ويشير إلى طبيعة معيشتها وحياتها ومستوى التقدم الذي حققته. ومن هذه الآثار استطاع الإنسان أن يبين عصورا مختلفة من الحياة البشرية مثل البدائي، والحجري والبرونزي وغيرها. وأصبحت الآثار تراثا نفيسا تحرص المجتمعات اليوم على الاهتمام به والحفاظ عليه ليس لأنه يحكي قصة قديمة لإنسان ذلك المجتمع فحسب بل موردا سياحيا وعبرة لإنسان هذا العصر. وأصبحت الآثار أيضا جزءا لا يتجزأ من الكيان الوطني لأي مجتمع ومسيرة الإنسان فيه خلال العصور المختلفة. ورغم هذه الأهمية للآثار والتراث الإنساني بصورة عامة، إلا أن المشاريع التنموية قد تأتي عليها فتغير من سحنة المكان، وتخفي ما صنعه الإنسان عبر الزمان وكأن العالم القديم لا يعنينا. ولا غرابة بعد ذلك، أن نسمع بين الحين والآخر بأنه تم العثور على آثار أثناء شق هذه الطريق أو تلك، أو تنفيذ هذا المشروع أو ذاك. الآثار والتراث هي ملك للإنسانية وليست لمشاريع آنية. وعليه، فإن إزالتها أو تدميرها أو العبث بها يتنافى مع هذا التوجه الدولي. إلا أنه من الواضح أن مجموعة من العوامل جعلت من الآثار ضحية مباشرة لمشاريع تنموية في كثير من دول العالم. لعل من أهم هذه الأسباب هي الجهل والجشع. إذ تفتقر الكثير من الخطط الموضوعة لإقامة مشاريع تنموية إلى عناصر معنية بالتاريخ والآثار مما يجعل التخطيط قاصرا على دراسة التكاليف والعوائد النفعية المادية من هذه المشاريع. على الرغم من أن المردود الاقتصادي والسياحي للآثار في عالمنا اليوم أصبح أحد أهم مصادر الدخل القومي لدولة مثل مصر بل المصدر الأساس للدخل في بعض البلدان مثل تايلاند. والغريب أن كثيرا من المشاريع تصاغ في غرف مظلمة يرفع عنها الحجاب فقط عند الشروع في عمليات التنفيذ الفعلي. وربما كان من الأجدى دراسة تاريخ المنطقة الذي تراكمت على كتبه الغبار مثلما غيرت الأجساد أديم الأرض. ومن الأجدى أيضا الاستعانة بالعارفين بتاريخ المنطقة من الأحياء مثلما يتم الاستعانة بمهندس المشروع الذي غالبا ما يكون غريب الوجه واليد واللسان عن المنطقة. إن العزلة التي فرضتها عملية التخطيط للمشاريع التنموية العملاقة على آثار وتاريخ المنطقة كانت سببا مباشرا في فقدان العالم للنظر والتأمل في التاريخ الإنساني، وفي صعوبة التحقق من الروايات والسير التاريخية التي كان من الممكن أن نجد شواهد لها على هذه البسيطة. أما السبب الآخر فهو الجشع مع عدم الاكتراث بما خلفه إنسان الأمس. الجشع في تحقيق أرباح ومكاسب مادية على حساب الموروث والآثار على الرغم من أن هذا الإنسان نفسه لا يستطيع أن يتحمل رؤية الصرح الذي بناه وهو يهدم أمام عينيه. ربما المشكلة الأساسية هي أن الآثار تتبع الأموات، ولا يستطيع الموتى فعل أي شيء غير الموت. ولكن عندما يدرك الإنسان أن الآثار هي جزء لا يتجزأ من الوجود الإنساني ومن الهوية الوطنية ومن تاريخ المجتمع عبر العصور ستجد الآثار ملاذا آمنا يحميها ويبقي عليها. فكيف نستدل على التجارة البحرية الرائجة عبر العصور إذا قمنا بتدمير الآثار في موانئنا القديمة؟ وكيف نستدل على التواجد البشري إذا قمنا ببناء المشاريع وشق الطرق على أضرحة ماثلة للعيان؟ وإذا كنا نسعى جاهدين إلى أن نحتفظ ونحافظ على الشيء الثمين الذي خلفه لنا أجدادنا فلماذا لا نعتبر أن البشر، جميع البشر ممن سبقونا هم أجدادنا وما تركوه من شواهد هي أشياء ثمينة ينبغي المحافظة عليها أيضا. ............................................................................. كاتب عربي - الثورة