** قلة من بيوت صنعاء تحتفظ بطقس «المدرهة» في الحج.. كفَّتْ أراجيح صنعاء الأسبوع الماضي- أو هكذا يفترض -عن البوح بتنهداتها الحافلة بالحب والشوق، لحجاج بيت الله الحرام، بعد أن بدأوا بالعودة إلى الديار أو هكذا كان يحدث في الماضي.. وكانت الأراجيح تنصب في اليمن كلما سافر حاج لتغدو «المدرهة» حالة وجدانية بين الحاج وأهله، يتأرجحون عليها لاهجة ألسنتهم بالدعاء إلى الله تعالى أن يعيد حاجهم إليهم سالماً معافى.. وما تزال عادة نصب «المدرهة» شائعة في صنعاء خصوصاً في موسم الحج، ولا تتوقف «المداره» عن ممارسة الولع والشوق، والطيران في بيوت صنعاء، وساحات القرى الريفية حتى يعود الحاج إلى الأهل بسلامة الله.. وتتراوح فترة ممارسة هذا الطقس لشهرين تبدأ مطلع ذي القعدة ويمتد حتى انقضاء ذي الحجة غير أن تغير نمط الحياة قد عمل على تراجع هذه الطقوس بعد، تنامي وسائل الاتصال الحديثة، وأصبحت عادة «التدره» مهددة بالاندثار عدا في قلة من بعض بيوت صنعاء القديمة.. ويخشى المهتمون بالتراث رحيل هذه العادة دون رجعة بعد استبدالها بأناشيد الشجى والشجن المسجلة على الكاسيت ، التي يبدأ توزيعها للبيع عند بدء موسم الحج من كل عام.. وتعد ظاهرة «المدرهة» ذات صفة عمومية تشهدها مدن وأرياف اليمن على حد سواء.. ويعرفها الإمام الموسوعي/نشوان بن سعيد الحميري في موسوعته الشهيرة شمس العلوم «المدرة» بأنه لسان القوم والمتكلم عنهم.. ومن هنا يشتق اسم «المدرهة» وهي تسمية عربية فصحى ومن يمارس عادة «التدره» لا بد وأن ينشد «بصوت عال» الأناشيد الحافلة بالشوق للحبيب الغائب، وأن يشعر بالقلق النفسي وبالخوف من المجهول.. لكن هناك ما يجعل المدرهة بالفعل ذات صفة عمومية لا تقتصر على صنعاء وحدها خزانة طقوسنا الاحتفالية.. فقد ذكرها البهاء الكندي في كتابه «السلوك» مستشهدا بحج الملك السلطان المظفر الرسولي علي بن عمر عام 659ه وقيام والي عدن «الجزري» بنصب مدرهة كما عمل غالب أعيان عدن.. ويقول الكندي عن المدرهة «شيء يعتاد أهل اليمن عمله لمن حج أول حجة وعند نصبها اذا كانت لرجل ذي رئاسة قام الشعراء بأشعار يمدحون من أقامها ومن أقيمت من أجله».. وبالرغم من كل ذلك، ما تزال الخصوصية الصنعانية أصيلة تحتفظ بثقافة المدرهة التي اندثرت في مناطق كثيرة من اليمن.. وما يؤكد ذلك حضور أشعار المدرهة المصبوغة بلون الشعر الحميني الصنعاني المدونة في كتاب «روائع شعر النشيد الصنعاني» الذي جمعه رئيس جمعية المنشدين اليمنيين علي بن محسن الأكوع.. وراهناً تحتفي قلة من بيوت صنعاء بعادة نصب الاراجيح كذاكرة للحج وكانت هذه الطقوس قد شهدت احتفالية كبرى من خلال مهرجان نظمه بيت الموروث الشعبي العام الماضي.. ومثل المهرجان حينها بقعة ضوء جميلة في رصيد موروثنا الثقافي البديع الذي صارت بعض عناوينه في براثن النسيان.. ولا يبالغ «إبراهيم السدمي» 25 عاماً وهو يقول: نصبنا مدرهة منذ عشر سنوات في فناء المنزل حين حج والدي إلى بيت الله الحرام وما تزال باقية للتسلية.. وبالمقارنة يظهر البون شاسعا بين زمنين ، فقد كان الرحيل إلى مكة في الماضي أمراً شاقا ومحفوفا بالمخاطر اذ تعاني قوافل الحجاج أهوال غارات قطاع الطرق وصعوبة السفر في الطرق المليئة بالأشواك والوحوش والزواحف وغيرها من الآفات والمصاعب.. لقد وجدنا من يصف هذه المعاناة بدقة لأنه عاشها في رحلة مضنية قبل الثورة إلى بيت الله الحرام أحمد وهاس 80 عاماً حج يافعا يقول: كنا نقدم على هذه الفريضة بكثير من التهيب والتوجس.. بمقدار ما كانت تثيره هذه الرحلات الطويلة في نفوس المرتحلين من الترقبات والمخاوف كانت أيضا تخلف في نفوس الأهل والأقارب من الحزن والقلق والأشجان ما لا يزيد عليه.. وكانت مرة تعليق الاراجيح تستمر طيلة ثلاثة أشهر من كل عام على الأقل لتغدو فترة حافلة بالشوق والقلق النفسي، والانتظار المشوب بالتوجس ومرارة الهواجس الحزينة.. ليس الراهن كما الماضي فنصب الأراجيح يقتصر على أيام معدودة بعد أن صار أمام الحاج أن يصل في يومه لذا تخلت الاراجيح عن جزء كبير من مضمونها الذي تطغى عليه اللوعة.. بعد روحاني ما لا نستطيع تجاوزه هو أن فترة غياب الحاج عن منزله قد أنتجت عبر الزمن فنونا من الأدب الشعبي كالحكايات والاهازيج والأغاني والعادات الشعبية. وتبقى المدرهة بعداً روحانيا له خصوصية توغل في عوالم الخوف والحزن لهذا تأتي أغاني المدرهة حزينة من الغالب تغني بأبيات عفوية معظمها على «بحر الرجز».. مفتتح النشيد وتبدأ الأناشيد بذكر الله سبحانه وبالصلاة والسلام على رسوله الكريم.. مثل قصائد الحمينيات الصنعانية ويحدث هذا قبل ترديد أبيات الشوق واللوعة لحاج بيت الله الحرام.. شابدع بقولي في الإله الواحد المنان.. وانثي بقولي في النبي الهاشمي العدناني واثلث بقولي في علي ذي حطم الأوثان شابدع بالي صف النجوم وأسامر الهلالي وأسامر الحوت في البحار والطير في الأوكار بدعت بش بالفاتحة يا خيرة الاسامي وآخرش شن المطر ودحدح الوديان.. التغني والتغزل بالحاج المسافر من خلال وصف صفاته ودرجة حب الأهل له من أساسيات المدرهة الذي يأتي في النشيد: قد جيت أدره واعتني ومن بلاده بعيد ومن بلاد خلف الجبال ياليتها قريبة قد جيت ادره معتنى في حنجك يالغالي في حنجك ياحجنا يا طلعة الهلالي ويا لمن؟ذا المدرهة ويالمن؟ ذا الدراه لا هي لدولة أو لمن؟ لا أو لحاكم حكام لا أو لقارئ في الكتب لا لخط الأقلام وما ندره ما نقول؟ وفي الحجيج العالي وفيك يا سيد الرجال وياقنيف علاني وفيك يا نقس النبات ويادواء للأسقام وفيك ياظبي الخلا يابو الغريب لاجا بانوراما عاطفية البحث عن سياق ثابت للنشيد لم يفلح. فهو يختلف من مكان لآخر ومن حاج إلى غيره فتارة تستجدي الصورة العاطفية في النشيد حمام مكة وهو يعطي أوصاف الحاج بهديل مختلف، وحينا يصور النشيد حالة الفراق وتباعد الأحبة ثم لحظات الوداع أو مناجاة النفس: يا حمامة عرفة وحومي وحومي واطلعي راس الجبل واحذرش تنومي واعرفي لي حجنا وهو دقيق خضراني وتتنوع سياقات النشيد في أوصاف متعددة: يا حجنا يا حجنا لا.. أين قدك وأين عادك قال عادنا وسط الحرم وملتوى لزمزم لو تبسرونا يا اهلنا يوم الوقوف ما ارحمنا مخلسين باجسامنا وربنا ينظرنا حتى أحجار المدرهة التي عادة ما توضع في حفر كبيرة وتنصب الأخشاب بينها لها قسط من المناجاة مع المتدره: يا حجار المدرهة عنعمرش ديواني عنعمرش ديوان جديد لوصلة الحجاج وياحجار المدرهة ويا ثلاث ويا أربع وما توصاش حجنا وما توصاش ما قال وهو توصاش في العيال وفي الزراعة والمال وليست الاراحيج معراة بل كان من الطقوس المرافقة لإقامتها تزيينها بلباس الحاج نفسه، فإن كان رجلاً ألبست الارجوحة ثيابه وسلاحه وإن كانت امرأة البست أجمل ملابسها.. وتنصب المداره في صنعاء وما حولها إما داخل المنازل أو في أفنيتها أو ما يقع بالقرب منها من ساحات وباحات فأل سيء وتختار حبال الارجوحة من الحبال القوية والمتينة وكثيراً ما تكون من سلاسل الحديد خوفا من فأل سيء يحمله انقطاعها- حسب اعتقاد سائد- وفي شق من نشيد المدرهة يلخص ذلك: يا مدرهة سيري سوا لا ترخي الحبال لا ترخي الحبال السلب فوقك ثقيل غالي وكان التدره مجدولاً أشبه بحصص الدراسة فكانت فترة ما بعد العصر حتى أذان المغرب مخصصة للنساء بينما دور الرجال يبدأ في المساء.. وتتجاذب وجدانيات الحاج وأهله تفاصيل كثيرة فولعهم وهم يعتلون المدرهة يقابله حرص عدم نسيانه لهم واعترافه بجميلهم وتتجلى لغة الذكرى المشتركة بخطابهم: يا حجنا ويا شليل وزيد الهدية وادي هدايا للبنات لا عقد عقد مرجان وادي هدايا للعيال لا حوليات وشيلان نهاية النشيد وفي نهاية المطاف تهفو نفوس الأهل كل مرة مع طيران المدرهة المحكومة بقانون الذهاب إلى الأمام والعودة إلى الخلف إلى عودة حاجهم يملأهم شوق مضاعف تحمله أذرع الاراجيح وهي تبحث دون كلل عن بشرى خبر العودة الذي يختتم به النشيد رحلة طقوس التدره.. يا مبشر بالحجيج بشارتك بشاره بشارتك دار الوصول وتلحقه شراره بشارتك بير العزب وتلحق الجبانه بشارتك سوق العنب وتلحق المعطارة ويا مبشر بالحجيج بشارتك من عيني بشارتك حلقة يدي والقرش ألي في جيبي بشارتك خاتم ذهب وأربع حبوب في صدري بشارتك قصر السلاح وتتبع الوزارة والأجمل هو اختراع اليمنيين فكرة المدرهة لتكون سلوة يتسلى بها أهل الحاج المسافر إلى بيت الله الحرام ويتسلى معهم جيرانهم ومحبوهم.. ولعل نصوص أناشيد المدرهة تشير إلى ذلك الطقس بجلاء.. لتغدو خزانة تراثنا الشعبي متدفقة بكل ما يمنحنا خصوصية مختلفة.. (الثورة)