استقبال الحجيج مازال موروثاً شعبياً يحييه المواطنون كل عام عند عودة من يذهبون لأداء فريضة الحج، ويؤدى بنمط يبعث البهجة والفرح والسعادة إلى القلوب، لاسيما حين يطلق المغرد صوته ليسمع حنينه وشوقه للآخرين ويبث لواعج أشجانه مع الآخرين في القرى المتجاورة لتلتقط أذن السامع مقامات موسيقية غاية في الجمال تظهر الموروث الشعبي الذي كادت العولمة تقضي عليه.. وتعد عادة استقبال الحجيج من المظاهر العيدية التي تكون بمجموعها مسرحاً عيدياً يؤدى كل عام على الهواء الطلق، حيث تحدث مناظرة بين النظرة والبسمة والصوت بسيمفونية تحفر حروف موسيقاها على نوتة الوجدان فيأتيك الفرح يجرجر أذياله وتستمتع حواسك بمذاق أداء الفن الشعبي، وكأنك تعيش مشهداً حاضراً لعروض مسرحية وموسيقية في آن واحد. أيام عيدية بمحافظة المحويت كفيلة بأن تبعث في وجدانك الكثير من المشاعر الغائبة، لاسيما وأنت تعيش في أجواء سياسية نغصت المذاق التقليدي لأعيادنا الدينية، لكن مع كل هذا يحرص الريفيون على أداء طقوسهم وعاداتهم الشعبية بصورة كلاسيكية تعكس صنعاء ونقاء القلوب من الأحقاد والضغائن. «الجمهورية» سلطت الأضواء على هذه الطقوس العيدية وخرجت بالحصيلة الآتية: تبدأ هذه المباهج والطقوس التي تزين الفرحة العيدية منذ عزم الحاج لأداء فريضة الحج، حيث يقوم أهالي القرية بنصب المدرهة أو الأرجوحة منذ بداية عشر ذي الحجة، ويقومون أيضاً بطلاء المنازل بالنورة البيضاء وذلك كدلالة على صفاء ونقاء القلوب، ويحرصون أيضاً على أداء الأهازيج الشعبية التي مازالت محفورة في ذاكرة الآباء والأجداد، والذين بدورهم يلقنونها لأبنائهم بطريقة دراماتيكية تعكس مدى الأصالة العريقة لتراثنا الشعبي المتوارث منذ القدم. وليمة توديع الحاج يقول الأستاذ عبدالله صالح مفلح إن مراسيم توديع الحاج تبدأ من حين ينوي الحج، حيث يقوم أهالي القرية بعمل عزومة «وليمة» يذبحون فيها «كبش» ويجتمعون وقت التخزينة، حيث يقوم أحد الأفراد بترتيل المواويل والموشحات الدينية ويقرأون الفاتحة، وفي نهاية المطاف يقوم الأهالي بتوديع الحاج ويوصونه بالدعاء لهم عند وصوله البيت الحرام، ويوم السفر يخرج الأهالي لتوديعه إلى خارج القرية وسط الدعاء بعودته من حجه سالماً غانماً ويزودون الحاج بالبن والكعك والهدايا ليهديها الحاج لمن شاء من الأقارب في بلد الله الحرام، ويحرصون على تزويد الحاج بالزبيب اليمني لغرض بيعه في مكة واستبداله عند رجوعه بالأشياء النفيسة والهدايا والعطور التي يرغب الأهالي بإعطائهم إياها بعد عودة الحاج من حجه. أهازيج ومهاجل ومن خلال متابعة الصحيفة للمهاجل والأهازيج التي تقال عند توديع الحاج وعند استقباله بعد عودته من أداء فريضة الحج حصدنا ما يلي: عند سفر الحاج يخرج كل أقارب وأهالي قرية الحاج إلى منطقة تبعد عن القرية عشرة كيلو مترات وسط فرحة عارمة، لكن في الماضي كانوا يودعون الحاج وسط بكاء وحزن لكون الحاج في الماضي كان يسافر شهوراً ويتعرضون في الطريق للسلب والنهب.. وإذا كان لدى قافلة الحج الذاهبة شيخ مسن أو امرأة عجوز فربما تلاقي حتفها قبل أن تصل إلى بيت الله الحرام.. أما اليوم فالأمور أصبحت سهلة وصار الحاج يصل في غضون ساعات على متن الطائرة أو يوم ونصف على متن باصات النقل التابعة لشركات التفويج ويردد الأهالي عند توديع الحاج: مسافرين ياليتني معاكم لزادكم وإلا لشرب ماكم مسافرين الله يعين سفركم وإذا كانت معهم امرأة يقولون: والله يعين الغصن اللي معاكم أما الرجم عاد الحبيب جاهل سوق الجمال ماعادنيش جمال كلّت جنوبي من بزوز الأحمال ياليتني جمال بعد سودي وأسايرك يا ناشر الجعودي قصيدة يا راحلين إلى منى ويعود أهالي القرية بعد توديع حججهم ليجتمعوا في المقايل وينشدوا المدائح والقصائد النبوية، لاسيما قصائد عبدالرحيم البرعي وقصيدته المشهورة: يا راحلين إلى منى بقيادي هيّجمتوا يوم الرحيل فؤادي سرتم وسارد ليلكم يا وحشتي الشوق أقلقني وصوت الحادي أحرمتموا جفني المنام ببعدكم يا ساكنين المنحى والوادي ويلوح لي ما بين زمزم والصفا عند المقام سمعت صوت منادي ويقول لي يا نائماً جد السرى عرفات تجلو كل قلب صادي من نال من عرفات نظرة نال السرور ونال كل مرادي تا الله ما أحلى المبيت بمنى في ليل عيد من أبرك الأعياد ضحوا ضحاياهم وسال دماها وأنا المتيم قد نحرت فؤادي لبسوا الثياب البيض شارات اللقا وأنا الملوع قد لبست سوادي ويختمون جلسات المقيل بشطر القصيدة التابعة للصوفي عبدالرحيم البرعي والذي يقول: يا ربُّ أنت وصلتهم وقطعتني فبحقهم ياربُّ فكَّ قيادي فإذا وصلتم سالمين فبلّغوا أزكى سلامي أهل ذاك الوادي بالله يازوّار قبر محمدٍ من كان منكم رائحاً أو غادي بلّغوا المختار ألف تحية من عاشق متقطع الأكبادي قولوا له عبدالرحيم متيم ومفارق الأحباب والأولادِ صلى الله عليك ياعلم الهدى ماسار ركب أو ترنم حادي ويختمون الجلسات بالفاتحة والدعاء والتضرع إلى الله بأن يبلغهم حج بيت الله الحرام وزيارة قبر المصطفى صلى الله عليه وسلم. المزارعون بعد سفر الحجيج أما في أوقات الصباح لاسيما المزارعون فهناك مهجل خاص يردده المزارعون، لاسيما بعد ذهاب الحجيج ويكون ذلك غالباً في موسم الحصاد، حيث من أبياته: يا شوقي للطاهر يا شوقي له مني باطن ظاهر يا شوقي له والبابور مسافر يا شوقي له والقمر مضوي يا شوقي له في المقام العالي يا شوقي له ذاك العلم الفاخر يا شوقي له يا سُعد من يزوره يا شوقي له يجب احترامه يا شوقي له إلى يثرب نزوره يا شوقي له وهكذا تردد الأهازيج والمواويل أثناء فترة عيد الأضحى المبارك حتى عودة الحجيج. عمامة الحاج على المدرهة ولعل ما يلفت في بداية عشر ذي الحجة هو تسابق القرى وحرصهم على إصلاح المدرهة والتي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بتوديع واستقبال الحجيج، وتعتبر عادة متأصلة، ولكنها بدأت تختفي خلال العامين الماضيين، إلا أن هناك قرى مازالت تحرص على نصبها حيث يتم نصب عمودين من الخشب ويكون العمودان متقابلين ويتم غرسهما في الأرض، ثم يوضع فوق العمودين عمود ومن ثم يتم ربط الحبال وإنزالها من المنتصف ويتم ربط عمود خشبي في نهاية الحبال لتصير أرجوحة تعلو في الهواء. ويحرص الأهالي على ربط عمامتين على عمودي المدرهة يسمونها عمامة الحاج، ويشترك في إصلاح المدرهة جميع أهالي القرية والذي لم يخرج يذهب الجميع إلى بيته مصطحبين المرافع والطاسة لإخراجه، حيث يصاب بالخجل.. ووقت إصلاح المدرهة تدق المرافع والطبول لتحفيز الشباب على سرعة إصلاح المدرهة وسط فرحة غامرة، وبعد إصلاح المدرهة يأتي المغرد ليعلو المدرهة ويكون من ذوي الأصوات الجميلة ليطلق تسبيحاته وتغاريده المعروفة، وليلاً تعلق الفوانيس على جانبي المدرهة. تغاريد المدرهة تشكل المدرهة موروثاً شعبياً هاماً، حيث تعمل المدرهة على صقل المواهب وإبداعات الإنسان اليمني في الإنشاد والمواويل الشعبية الأصيلة، حيث يبدأ المغرد بقوله: وقد طلعت المدرهة وفي كنف رحماني وقد طلعت المدرهة وفي حفاظ رحماني وفي حفاظ واحد كريم من أجل ما ينساني بدعت بش بالفاتحة يا أولش أسامي وآخرش شن المطر ودحدج الودياني ولابد في تغريدة المدرهة من ذكر الحج والحجيج بقوله: وأبي عزم مكة يحج وسامح الجيراني وحاجنا قد سار يحج والله يودع سالم وا فاطمة خليكي معه والله يوديه عاني يا سائق الباص أيا آمين أمانتك أمانة أمانتك في حاجنا أمانة أمانتك ما تحمل الإهانة أمانتك شل السلام إلى حاجنا وأصحابه أمانتك تذكره في أولاده قد أوحشتهم فرقته مش والفين لغيابه ويخاطب المغرد المدرهة بقوله: يا مدرهة .. يامدرهة مال صوتش واهي قالت أنا واهية ما حد كساني كسوتي رطلين حديد والخشب رماني ويقول مغرد آخر: أبدأ بالقول أوله يافرد عاني وأثني بقولي النبي المصطفى العدناني وأثلث بقولي علي ذي دمر الأعدائي قاصي وداني تغريده الوقفة ويوم الوقوف بعرفة يتم قول تغريدة خاصة وهي: ياحمامة عرفة كن حومي وحومي كن اعرفي لي حاجنا لا هو عبق أخضراني واعرفي له عصيته هي شوحط أو رماني ألا واعرفي له دسعته هي دسعة لحمامي ويقول مغرد آخر: يامدره ياغبي لا ترخي الحبال لا ترخي حبل السلب فوقك ثقيل وغالي ثم يقول المغرد تغريدة على لسان الحاج: لو تبصروني يا إخوة حين الحجيج يهلل أحيت بروحي حين رجفت ودمعتي على الخد سيالة لو تبصرونا يا أهلنا وسط الحرم ما أرحمنا مخلسين مضحين بين الشموس القمر مخلسين حتى أجسامنا والإله ينظرنا وعند السماع بمقدم الحجيج يقول مغرد المدرهة: يامبشر بالحجيج شل لك بشارة بشارتك قصر السلاح والسيف للمقتالة ياحاجنا وين وين عادك قال عادنا وسط الحرم ومرتوي من زمزم الاستقبال الأخير للحجاج عندما يعلم أهالي القرية بمقدم موكب الحجيج يخرجون إلى مشارف عزلهم وقراهم ويستأجرون سيارات ويصطحبون الطاسة والمرافع بعد أن يقوموا بذبح الضأن والماعز وتوزيعها على الفقراء، ويصطف الجميع عند وصول الحجاج وتظل عيونهم شاخصة والقلوب تخفق سريعاً والأفكار تتوارد وتمتزج المشاعر والأطفال متلهفون لرؤية حجيجهم كي ينعموا بالهدايا والحلوى والمسابح التي سيوزعها عليهم الحجاج فور وصولهم. ولا تقل فرحة الوصول عن يوم العيد حتى النساء يساعدن أهل بيت الحاج في التحضير للولائم وتنظيف المنزل، وما إن يبدأ الحجاج بالظهور للعيان حتى يطلق جميع أهالي القرية زخات من الأعيرة النارية والمفرقعات النارية تعبيراً عن الفرحة بمقدم موكب الحجيج.. ولدى وصول الحاج يسلم على الجميع وأهالي القرية ينثرون الورود والرياحين ويهنئونه بأداء فريضة الحج بقولهم: تقبل الله منكم وحجاً مبروراً وسعياً مشكوراً، ثم يذهب الحاج إلى بيته للسلام على أهله ثم بعد ذلك يتوافد جموع المهنئين ليباركوا للحاج ويحضر كل مهنئ «كبش» للحاج ويقوم الحاج بتوزيع ماء زمزم والتمور والسبح والمصاحف والسجاجيد وتستمر العزائم لمدة شهر وينشدون في المجالس التواشيح الدينية المعبرة عن هذه الفرحة ومنها قولهم: ريناك ورينا الخير ياحج بيت الله ريناك ورينا المطر والسيل وأنعم علينا الله