في عنوان الروائية السورية لينا هويان الحسن (سلطانات الرمل) ثمة إحالة واضحة من خلال العلاقة بين المفردتين سلطانات ورمل، الأولى بدلالة الجاه والسيادة، والثانية بتخصيصها بيئة معينة بذاتها، وكذلك ارتباطها بالضياع والفرقة، ضياع الأحلام وتبدل الأحوال وزوال الممالك والمدن، بحيث تبقى الريح تذرو الرمل على ما تبقى منها في أوحش صورة لطمس الأثر. ولئن كان العنوان في أي عمل مفتاحه وداله الأول، وعتبته النصية الأهم، فإن لينا هويان الحسن، ارتأت أن يكون (سلطانات الرمل) حاملها في تفتيح تتبع قارئها لها في رواية ستدخل المساحات البكر طرحا ومعالجة وشجاعة، ما سيجعلنا نذهب على فهم مرامي العنوان وإستراتيجيته في تفكيك البنية الأولى للرواية، القائمة أساساً على نوستالجيا، يتضح من تضمن الكتاب وليس مصادفة في نهاياته لتأرخة اللفظة (اخترعت كلمة نوستالجيا في حزيران عام 1688 اخترعها أو ربما اكتشفها فقط لكنه سماها، طالب سويسري وقتها قام بجمع كلمة NOSTOS التي تعني (عودة) وكلمة ALGOS وتعني (ألم) في أطروحة طبية لوصف المرض الذي يعاني منه الجنود السويسريون حين يبتعدون عن جبالهم). وهنا من المؤنث في العنوان سنعرف السلطانات بالمعنى المجازي، النسوة البدويات المتضح من المتضايف الرمل حيث من المعروف قيام ممالك البدو المفترضة على الرمال وجميع الصحاري ملكاً لهم، وما تنقلاتهم الكثيرة إلا جزء من التدليل على روح البداوة الموارة والتعبة، والمتأبية في نفس الوقت، ومن هنا تأتي الدقة في توصيف النساء بسلطانات لهن الكثير في صوغ القرار وحياكة المؤامرات والدسائس، وكل ذلك من خلف الكواليس، الحرملك البدوي المكشوف مكاناً والمضبوط بصرامة كجوانية لا يمكن مكاشفتها. ترصد الروائية الشابة والبدوية في حنينها إلى تاريخ الأجداد القريب، تحولات البدو من خلال المرأة، ومن خلال العلاقة الملتبسة مع الطبيعة والعراك الأزلي معها ما ولد صرامة مطلقة في علاقات الداخل للقبيلة نفسها ومن ثم علاقاتها مع الآخر، ومن ثم العلاقة بين الرجل والمرأة كعلاقة إشكالية، كما يتبدى من الرواية، فالمرأة كائن يمتلك من السلطة الخفية الكثير في المضمر، في الواضح هو مغيب وملعون ومجلبة للحروب، ما يشي بأن العلاقة في النهاية مركبة، وبحاجة لتفكيك يسوي المسافة بين البساطة القائمة على أدوات البدوي وبين تفكيره العميق وتلون نفسه وأهوائها، بدخول الحسن الحرملك القبلي تعلن إدراكها لكنه المغيب وتعتيمه، فتحاول تهديم الصورة النمطية لها، واجتراح مفهوم جديد يقيم التعاطي مع فعلها وحدثها والتواطؤ بينهما للحفاظ على ما اصطلح على تسميته العرف، التابو المحكم، الذي لا يرشح منه إلا ما تريد السلطة هنا ترشيحه، وهي إذ تشتغل هنا، تعرف أن النساء في المحرم، بأعناقهن المتناوقة إلى الآخر في عزلته، لكن في تبصره وبصيرته اللائذة إلى هذا المكان المهمل شكلا والحاضر عنوانا عريضاً، وأن الطوطمية القبلية ستحد من تبييض الصورة، ودخولها خاصة وأن الوقت الذي تتناوله قريب، وأسماء القبائل على حالها من شمر إلى طي فالموالي وعنزة والحديديين. هذا ما تؤكده ارتكازة روايتها (حمر الموت) ابنة شيخ طي التي أحبت أحمد الموالي شيخ البوريشة، وسيقت قسراً كسبية إلى حبيبها والذي طلبته هي بنفسها، والعادة تقتضي أن الرجل الذي يطلب لا بد وأن يلبي دعوة المرأة التي أرادته، وإلا فإن تخاذله يعني عاره الذي لن ينفك منه، هذا كان السبب في حرب بدأت ووضعت أوزارها بكثير من الخسارات والعويل والفقد لتتناسل القصص تحت أسماء نساء أخريات (قطنة، رفعة، سكري، منوي، معزز، عنقا، بوران، وأخريات) وأشخاص آخرين وبأدوار مختلفة، حيث يجد المتلقي الجرأة والمكاشفة في ارتياد الحميمي لغة وصورة، وهذا ما أثار حفيظة أبناء بعض القبائل ومنها طي ولوحوا برفع دعاوى قضائية ضد الروائية لولا أن الروائية تخفت في دفاعاتها خلف الاستهلالات الاستشراقية في بدء مفاصل روايتها ونذكر منهم: الليدي . آن. بلنت، أوبنهايم، ويليام. ب. سيبروك، فيستشاين، ولفرد تسيغر، وليام هود، وعزت كتابتها إلى استفادة من فصول بعض الكتب، والشفاهي الذي استقته من كبار السن والذين مازالت تربطهم علاقة قربى مع تلك الأحداث المتناثرة بقصصها الحاصلة على عناوين تحمل اسم ووسم أبطالها. ولكثرة الأسماء يجد القارئ خللاً توصيلياً تمثل في لف القصص جميعها في الدائرة الروائية، بحيث يتميع الزمان والمكان وهو ما حاولت الحسن التخلص منه في لعبتها لكن اللعبة انسحبت على قارئ أراد القصة أولاً وهذا الدخول الآسر على الحرملك القبلي الذي ظل ولزمن طويل موضوع الغطاء عليه، وصار هنا الرهان على هذا الدخول أكثر منه على الفنية وما تحققه، وصار عنصر التشويق والمتعة اللذان يرومهما أي فعل إبداعي جوهراً مكملاً بحد ذاته ولم يبق ثانوياً أو تذويقياً لتكتمل اللعبة، ظهر ما عنينا في اللغة الشاعرية لا التواصلية والتي تطل برأسها كثيراً، ليخلق التناغم بين الطبيعة الجافة المسرودة وبين ما يحققه فعل الشعر، المرتبط أساساً بحياة البدوي، القائمة على التأمل في سماء صافية، قد تكون هذه السماء مكاناً روائياً آخر لا يقل أهمية من الجغرافيا التي تشتعل فيها الأحداث تقول: (لا لصاً يقوى على اختلاسها من خزائن الأمس، ولا سكيراً يمكنه أن يعبث بسرابها الضخم). وتقول في مكان آخر: (سهول شاسعة مثل دثار أزلي، تزينها وديان مثل آثار جراح لم تندمل، أمداء لا تنتهي، غيوم تلف الدنيا، جوارح تحز الغيم، تحوم فوق مسرح البرية، تطير في حلقوم المساء). وما مفردتا السراب والثعلب إلا لفظتان مخاتلتان شعريتان أيضاً شكلتا الاستناد والإحالة المحورية فالكلمتان تدلان على المراوغة والمكيدة، أو التشتت في الإحاطة بجغرافيا مترامية الأطراف، والأفق البعيد والسماء التي لا يرى البدو إلا هو تحت جبروتها وحنوها أيضاً عليه، وربما تتشاكل المفردات تلك وتتعالق مع روح البدوي وحراكه العقلي المتوجس، وفطنته وفراسته، ما يقودنا إلى أن الروائية في (سلطانات الرمل) وفقت باختيارها ركائزها المناسبة، وبصرت بيئتها الروائية بما يدل عليها، لاسيما أن هناك تاريخاً حاضراً والاستهلالات المستشرقة لا بد أن تحيل القارئ لتحديد الزمان، ومن ثم المكان المحدد في البادية السورية، وامتدادات القبائل هناك إلى قبائل في شبه الجزيرة العربية المكان الأول للقبيلة العربية بمفهومها الإداري وشكله الأول، على ألا نعتبر هذا الزمكان إلا زمكاناً روائياً بامتياز كون الراوي هنا الكاتبة بلغتها بتوليفها قصتها، بإطلالتها على أبطالها فهي وإن قيدت مصائرهم بحالة شفهية أو شفاهية فالقص لا يستند كلية إلى المرجع الاستهلالي الذي ثبتته الروائية وبالتالي الراوية الساردة، ليبقى النص عائماً والشخوص بحيواتهم المفتوحة على فضاءات عدة هو الفيصل في تفتح وانغلاق البؤرة المحرقية، وربما وسع أو ضيق البؤرة كان السبب في انفلات الحركة الناظمة لمجموع القصص المشكلة لحدث الروي العام، حيث أن بعض القصص تأتي مبتورة أو خارجة عن السياق وقد يكون هذا تحايلا من الروائية في التخلص من خوف يأتي حيناً، الخوف الذي تجاوزته منذ اختيارها لأبطالها ومكان أبطالها وزمانهم، وكسرها للهارموني مرات جاء بدراية العارف والخائف للتملص من سطوة (التابو). وعلى سبيل المثال خروج الشبان الثلاثة وبالتأكيد هم جزء من الروي إلى الصيد خارج حدود القص المكاني، جاء نافراً ونافلاً وخارجاً على روح الرواية، وكأن المفصل حشر حشراً لشعور من الروائية بجدوى التطعيم هذا لتغطية خلل توصيلي في مكان آخر، إذا عرفنا أن الرواية في جزء كبير من اشتغالها إثنوغرافي تطرق للعادات والقيم، والمفردات التي تحيط بالبدوي وتشكل ذاكرته وتراثه المادي واللامادي، من بيته مأواه إلى فرسه إلى سلاحه إلى طيره، إلى لباسه ولباس زوجه، إلى عيشه وتعايشه في بيئة قاسية، أعطته الصلابة والقوة والحزم والاسم، ومرور مفصل كامل إذا جاز أن نقول ذكوري في حين أن الوجهة الأكيدة كانت نسائية بامتياز، ومجيء المفصل الاعتباطي، يمكن أن يكون ذا أثر ووقع كبيرين لو استبدلنا العنوان الرئيس بعنوان محايث آخر (سلاطين الرمل) مثلاً مانحين له صفته الذكورية. لينا هويان الحسن في( سلطانات الرمل) ترمز المرأة البدوية، وتنظر إلى هذا الكائن خارج الحرملك، من خلال انتقائيتها المفرطة للشخصيات، الثيمات، وقدرتهن في تغيير الحال، كشخصيات فاعلة، ومركبة، وأن إغفالهن يعني بحال من الأحوال تغييب جزء كبير من التاريخ الشفهي للبداوة، والذي أصلاً بدأ يموه ويميع بعد انحسار الحالة البدوية لصالح المدينة والانبهار الكبير بالتقانة ومعطياتها المخدرة، فالمرأة الخارجة هنا خارج أسوار القبيلة غير مذمومة كما تريد الكاتبة، وهي تمارس أحقيتها في الحياة، وحقها من التربية التي أعطتها القبيلة نفسها ثم في لحظة انقلبت عليها لتمارس ضدها عسفاً واستلاباً، كأنهاً الأكثر إخافة من كثير من المواضيع الخالقة لتوجس البدوي وحذره. (سلطانات الرمل) إلى حد كبير راحت مع الشفاهي من خلال أسطرة الشخصيات رغم قربها الزمني وهذا بالتأكيد لا تتحمله الروائية فحسب بل تلك الذهنية البدوية القائمة على تعظيم الأشياء وإلباسها صفات خيالية تصل حد الخرافة، وكأن الروائية التي تنتمي إلى إحدى القبائل البدوية في ريف حماه السورية انطلت عليها الحيلة من الجدات وكبار السن الذين استمعت إليهم وكونت مادتها الروائية الخام، هذا من حيث اللغة والفضاء المتخيل، وربما هنا لا أسوق للرأي من جهة مخالفة، بل من جهة نجاح حققته الأسطرة هذه كفعل إغوائي هو فعل الكتابة الجمالي، وكأن الواقعية السحرية في أدب أميركا اللاتينية، كان حاضراً ليشكل متخيلاً ومحفزاً ماتعاً للذهاب مع الرواية إلى منتهاها بكل عيوبها، التي أراها قليلة ما إذا أخذنا بعين الاعتبار الفترة الزمنية لحدث الرواية والفترة الزمنية لإنتاجها، وإذا كنت أقول إن الرواية نجحت فنياً فهي نجحت في كسب قارئ أيضا، ولكي لا أصوغ السؤال هل تنجح الشجاعة في صنع رواية؟. سأقول نعم نجحت من كل ما تقدم لينا هويان الحسن في (سلطانات الرمل) بالإتيان بالأداة الكفيلة في كشف المستور الحريمي المختبئ خلف المقولات الكبيرة والمسورة بحجب العفة وغيرها، وكأن هذا المختبئ بمعزل عن الآخر رغم انفتاحه عليه وتخلصه من طوطميته.