في هجعة الليل وصخب النهار، أمي هي أمي كما عهدتها تثير الضجة والشجار . تشتكيها نساء الحي، ويسبها المارون، يقولون عنها امرأة (دبور) فهي شديدة الحرد، ضيقة النفس، سريعة الغضب . تعمل في سوق المدينة، تحمل على رأسها عند الفجر (كرتونة) نصف ممزقة، جمعت أشلاءها بلاصق مهترِئ، في إحدى زواياه تقبع مجموعة من البيض (البلدي) وفي ركنه الآخر عدد من الصيصان . اليوم مدت بسطتها أمام محل لبيع الأشرطة الصوتية وكما هي عادتها أخذت تزعق بصوت عال ( دجاج ، بيض بلدي، شقران للنفاس والمرض والكحة ) . اختلط صوتها مع إيقاعات الأغاني الهابطة المنبعثة من المحل المجاور، يقف أحد المتسوقين أمام بضاعتها، يقلب نظره بين حبات البيض وسألها : - بكم الحبة ؟ - ب30 ريالاًِ رفع حجبيه في عجب وقال : - هل هي بيضة من ذهب ؟! اشتد غضبها فهي لاتحتمل اللغو الكثير، صرخت في وجهه مزمجرة : (أذهب عليك اللعنة ...... لاينقصني سفهك...) انطعج الأخير حرداً، وأدار ظهره لصيصانها المتعطشة للشمس، فجأة خيمت غيمة سوداء، وعمت البلبلة أرجاء السوق صخباً على صخب، قبل قليل كانت الشمس مسيطرة تتحدى الشهور المنصرمة وقد وثقت بالجفاف والجوع. أغلق الباعة دكاكينهم، وتلاشى صوت الأغاني الهابطة، وفر المتسوقون إلى منازلهم، التقطت أمي أشياءها، واقطبت حاجبيها كأنما تلوم السماء . يممت وجهها حينا القديم حيث نسكن، وقد غطت المياه الراكدة الطريق إليها، تجتر نعلها السبعيني الطراز بين تلك الحفر، تتسرب من ثقوبه المياه الممزوجة بالأتربة والحصى تنحشر بين أصابع قدميها، تحتك فيما بينها ؛فيختلط الصلصال بقطرات من دم أمي، تتجمد ذراعيها إلى الأعلى في وضعية الاستسلام، أناملها لاتقوى على الحراك جمدها البرد، أم أنها أشياء أخرى؟ تبللت الكرتونة، وتلاشت أصوات الصيصان، هدأت ثورة البيض المتصادم، انسابت على عباءة أمي النحاسية بل السوداء الممتقعة اللون خطوطاً حفرت أبعد من أنسجتها البالية، وشقت طريقها إلى جسد أمي، تمتمت أمي ببضع كلمات حينما استشعرت البرد يصطدم بخلايا جلدها بل ويدك عظامها، انتفضت في رعشة محتجة، سقطت على إثرها الكرتونة ، وتناثر محتواها على الأرض، أخذ البيض يتدحرج، ويسد كل المنافذ والحفر الموجودة في الحي القديم، مازالت أمي تلهث وراءها، تحاول التقاطها وتعجب ( كيف أن البيض ... لم ينكسر ؟!) على مد النظر إن كان لايزال هنالك نظر بعد أن ظللته غمامة الدمع، تراءت لها صيصانها الهاربة تتهادى على صفحة الماء، انتفضت أمي مهرولة، تفتح ذراعيها المتصلبين، وتفكر جادة في( المحفظة الخالية، والدكاكين الموصدة، والمطبخ الخاوي من ذرة ملح ). بضع خطوات تفصلها عن الحاوية التي تسكنها، وصوت الصيصان يتعالى؛ وأجسادها تنتفخ وريشها ينمو معتق الألوان، أصبحت ديوكاً ذات أعراف مائلة، ودجاجات ذات مبايض افتراضية؛ فرحت أمي نصف فرحة فاحد تلك الصيصان ظل على حالة ولم تحدث معه المعجزة، اقتربت أمي تلملم عزاء السنين وقد هدأت ثورة الماء، وانجلت الغمامة، وانفرجت كربة كلاب الحي فخرجت إلى الشارع حيث أمي وديوكها غرست أنيابها ونشبت مخالبها، نزعت ريشها، زجت أمي بنفسها في غمار تلك المعركة المحسومة . سمع الجيران صراخ أمي المستغيث، لم يجيبوا واكتفوا بالنظر من النوافذ تشبثت أمي بالفرخ الصغير، أدير قفل الباب وقد تجمعت أسفله بقعة دم، دفعت أمي بنفسها إلى الداخل مترنحة قالت لي بصوت متقطع ! (خذي الفرخ وحضري الطعام للصغار ).