من الطبيعي أن تشعر بالحيرة والحرج عندما تتلقى أكثر من دعوة في نفس التوقيت لحضور مقيل ساخن تلتقي فيه نخبة من السياسيين ورجال الصحافة والأكاديميين والمهتمين بشؤون البلاد، حيث يتقاذف المدعوون الرؤى والطروحات ويتبادلون أحياناً الاتهامات حول مختلف الأوضاع في البلاد مستمدين طاقة استثنائية من وريقات القات التي يمضغونها. هناك من يعتبر هذه الظاهرة صحية ومفيدة، في حين أن البعض يعتقد أن هذه اللقاءات مجرد مضيعة للوقت وأماكن استعراض للقدرات والألفاظ والعبارات الرنانة التي عادة ما تكون "موضة جديدة" ناهيك عن الحساسيات التي تنتج عن هذه اللقاءات. ورغم أني نادراً ما أتلقى دعوات متزامنة، أو أرتاد تلك (المقايل) إلا أني أميل إلى الفئة الأولى من المهتمين الذين يشجعون هذه الظاهرة، فهذه اللقاءات في نظري بسلبياتها المختلفة متنفس للمكبوتين سياسياً وإعلامياً وكذلك مكان للتعارف وكسر الحواجز الوهمية، وهي في الوقت نفسه فرصة لمعرفة كيف يطرح الآخرون رؤاهم بدون رتوش الكتابة قبل النشر. كما أن المقايل أشبه ما تكون ب "الثينك تانك" وهي المنتديات الفكرية في بلاد الغرب عموماً والتي عادة مايرتادها صناع القرار وكبار السياسيين والمهتمين من باحثين وإعلاميين. غير أن هناك فروقاً بين مقايلنا ومنتدياتهم، ليس في الهيئة الشكلية ولكن في الرسالة والفاعلية خاصة في نقطتين أساسيتين: أولاهما أن ما يدور من نقاش في المقايل مهما بلغت أهميته يختفي بين سحب السجائر المحترقة، وأعواد القات المتناثرة على الأرض، لأنه ببساطة لا يوثق له لا بالتسجيل المصور أو النصي. وثانيهاً أن المتحدثين عندما يناقشون القضايا أياً كانت طبيعتها ومستوى خطورتها يغلبهم الشعور بالإحباط ويحصرون أنفسهم في دوائر الشكوى يستحضرون فيها كل العيوب وجوانب القصور. لكنهم أبداً لاينتقلون إلى فضاءات توليد البدائل واقتراح المعالجات، وبالتالي يصاب الكثير من مرتادي هذه المقايل ولنسمها المنتديات بالعقم السياسي الذي ولده الإحباط من جهة وتفاقم حدة التشاؤم لدرجة السواد، خصوصاً أن توليد الأفكار الجديدة التي تتماشى مع التطورات والقضايا الراهنة يقتضي العمل بالأفكار أو الرؤى التي سبقتها أو العدول عنها لعدم جدواها وعلى أصحابها أن يسلموا بذلك. لكن طالما أن هناك تكدس سابق ومزمن لرؤى ومواقف ومشاريع إصلاحات سياسية وتشريعية لم تستوعب ولم يقبل مقترحوها بعدم جدواها، فإن المهتمين لا يجدون بداً من المكوث إلى جوارها والدوران حولها وبالتالي لا يحفزون إلى التجديد وتوليد البدائل بدلا من الاستسلام لسلطة لن تمكنهم من المشاركة في صناعة القرار بهذا القدر من الضعف والإحباط. صحيح أن الواقع مؤلم جداً وجداً جداً للذين يقرأون ما وراء السطور ويدركون ما وراء الأحداث والمواقف السياسية التي ينتجها الحراك اليومي في الساحة، لكن لا يعني هذا التجمد في لهيب المعاناة. الجميع يعاني، وكل على قدر معرفته وإدراكه وتورطه في السياسة. ما أريد أن أصل إليه هو أن على من يشعر بالاختناق ألا يفقد الأمل في التغيير رغم أن المعطيات لا تبشر بذلك خصوصاً وأن أعداء التغيير نجحوا في إقناع المختنق سياسياً بأن الانتحار أقرب السبل إلى الاستقرار الذي ننشده. وهذا بحد ذاته انتصار للفساد بكل أشكاله وصوره. فعندما يشعر الإنسان أن الفساد سياسياً أو اقتصاديا أو إدارياً أمر لا مفر منه- يكون قد أعطاه جرعة وقاية تقويه أكثر وأكثر. وفي حين نعول على السياسيين والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني في إحداث التغيير وربما في خلق الظروف المناسبة لكي يحدث التغيير، نجد كل واحد من هؤلاء عاجز عن تجاوز حدود ذاته أو حزبه أو منظمته. الوجه الآخر لمساوئ (المقيل) أن هناك من يقدم فيه تحليلات منطقية صادقة للأوضاع ورؤى بناءه ومقترحات وحلولاً عملية لكنها تختفي جميعاً عندما يلتقي بأصحاب القرار ومن يملكون أدوات التنفيذ لأنه حينها قد جير لغته وفكره للمجاملة وكسب ود أصحاب التأثير. وينطبق الحال على تلك الأحزاب والمنظمات الجماهيرية التي تلتقي جميعها في الأهداف (المكتوبة) فقط، وحينما تأتي لحظة التطبيق كل يغني على ليلاه، وكل ينشد مصالحه الضيقة، مما يحبط المهتمين والمتابعين الذين يقعون في المنتصف بين السلطة التي تتبنى الفساد المنظم وبين القوى الأخرى التي تفرقت فمنحت السلطة سلطة أوسع وبيئة أخصب لتكاثر ذلك الفساد. حتى أن أحدهم قال إن الأحزاب والمنظمات تتمثل المقولة: "إذا كان بيتك من زجاج، فلا ترشق الناس بالحجارة." لأن معظمها بالفعل قد فشل في إصلاح ذاته وبيته. من خلال حضوري "كمستمع" في أكثر من لقاء أو منتدى لمست إحباطاً عاماً يطغى على كل مشاعر التفاؤل التي كنت أمتلك منها الكثير قبل دخولي تلك المقايل. فالواحد من هؤلاء الساسة أصبحوا بنظري بذلك الذي توفر له مبلغ من المال تمكن به من فتح بقاله. وبعد فتره من العمل في البقالة واستمرار تناقص رأس المال، يلعن صاحبنا صباح مساء البقالات والعمل فيها ويفكر باستمرار في التخلص من البقالة لولا أنه يخاف أن ينتزع منه لقب رجل أعمال. لكنه في أقرب أزمة لن يتردد في التنازل عن البقالة واللقب معاً، بعد أن يكون قد خط قائمة من المبررات التي دفعته لاتخاذ تلك الخطوة والتي منها بالضرورة المنافسة الغير نزيهة من البقالات الكبيرة، سوء الحي الذي يعمل فيه وربما الناس.... إلى آخر ذلك. أحزاب المعارضة في تخاذلها اليوم أشبه بالدكاكين المفلسة، والقائمون عليها يكررون مبررات فشلهم في الميدان السياسي، في كل مناسبة يتحينون الفرصة المناسبة للهروب من ذلكم الميدان. للأسف هؤلاء يتقنون بكفاءة عالية رصد مبررات الفشل لكنهم لا يهتمون بتقديم البدائل وتجديد الآليات التي يعملون من خلالها في سبيل إنجاح مشاريعهم الإصلاحية. يعملون بنفس الآليات البالية بما في ذلك الحزب الحاكم وهو أكبر الأحزاب في اليمن عموماً فهو لا يمتلك رؤية مستقبلية مؤسسية نستطيع التعاطي معها، ويمكن أن تسهم في تقديمه كحزب حقيقي. لا أظن أن المؤتمر الشعبي العام سيكون أفضل حالاً إذا خرج من السلطة إلى المعارضة لأنه لا ينتهج المؤسسية إلا في مواسم الانتخابات حين ينسب كل ما تحقق للوطن لفرسانه ويعد بالمزيد. أما أحزاب المعارضة فطالما أن حالها هكذا غارقة في الشكوى العدمية، فمن أين سيأتي التغيير المنتظر؟ وماذا ننتظر من مقايل لاتنتج إلا المزيد من الإحباط. * رئيس تحرير صحيفة يمن أوبزرفر [email protected]