قال الناخبون كلمتهم في انتخابات اتسمت بنزاهة ولو نسبية لكنها كفيلة بالجزم أنها تعبر عن إرادة الناخبين وتترجم قناعاتهم الجمعية. هدأت الأعصاب بعد ذلك الإعصار من الحملات الانتخابية التي كانت الأسخن من نوعها في تاريخنا والتي سفحت علاوة على الأعصاب عشرات المليارات، وسخرت لأجلها الخطط والبرامج المشروعة وغير المشروعة. استقر زعيم المؤتمر الشعبي العام على كرسي السلطة مجدداً وهو خيار أنسب إذا ما قرأناه محاطاً بمجمل التداخلات في الساحة اليمنية وإذا ما تم عقد المقارنة مع الظروف المحيطة بالمرشح المنافس. وبعد أن وصل القطار محطته الأخيرة آن للمرشح الفائز أن يفتش بجدية كاملة في أجندة الاستحقاقات التي فرضتها عليه الثقة التي منحه إياها الناخبون، وقبلهم المسؤولية التاريخية التي تمليها معطيات المرحلة المعاشة على مختلف الأصعدة المحلية والإقليمية والدولية. لم يعد من شك أن السنوات القليلة القادمة هي التي ستخط اسم الرجل في التاريخ إيجاباً أو سلباً، لاعتبارات متعددة أبرزها أنها خاتمة سنوات حكمه استناداً إلى الدستور، وبالنظر كذلك إلى مجمل التفاعلات التي تغلي بها المنطقة التي بلغت أوج حملها وآن لها أن تلد مرحلة جديدة سيكون للفاعلين المحليين فيها دور محوري في رسم ملامحها وتحديد سماتها. استقر الرجل مجدداً على كرسي الحكم لكنه مطالب بأجندة ضخمة من الاستحقاقات واجبة الأداء، إن حسم أمره وقرر أن يخط التاريخ لاسمه صفحة ناصعة البياض، وأبرز هذه الاستحقاقات تدشين مرحلة وفاق وطني واسع تلتف فيها كل القدرات والإمكانات اليمنية حول برنامج جاد للإصلاحات الشاملة يكون قادراً على تهيئة البلاد للتعاطي مع العصر ولغته، ويخرجها من عنق زجاجة الأزمات المركبة، ويسمح لها بأداء استحقاقات إقليمية ودولية وفقاً لرؤية وطنية وإدارة ذاتية تحقق حالة صحية يمكن معها استعادة تقه المحيط الإقليمي والدولي ومن ثم استثمار جهود هذا المحيط وإمكاناته في رفد مسارات التنمية الاقتصادية والاجتماعية لانتشال البلاد والعباد من حالتها المعاشة. ومن بين أبرز القضايا الماثلة أمام رئيس الجمهورية في فترته الرئاسية الجديدة العمل على خلق حالة صادقة وجادة من الاستقرار العام في الوطن من خلالها تتوفر مناخات مشجعة لعودة الرأسمال اليمني المهاجر الذي يتحرق شوقاً لوجود هذه المناخات من الاستقرار ليسهم بدوره في بناء النهضة اليمنية، ويستفيد في ذاته من بيئة استثمارية بكر وخصبة، ويتخلص من دوامات معاناته في بلاد الآخرين التي مهما بلغ فيها من شأن وحظوة فهو لن يتجاوز كونه ضيفاً عليها. وتتصدر أجندة استحقاقات الثقة التي منحها الناخبون لرئيسهم قضية الحكم المحلي واسع الصلاحيات، والتي كان للرئيس صالح دور محوري في الاستجابة لمطالب القوى الوطنية، ونقلها من عالم الأحلام إلى واقع معاش، يعلم هو قبل غيره من الناس أنه واقع ما زال منتقصاً، فالتجربة لم تبلغ مرحلة الرشد ولاتزال حتى اللحظة بلا روح في غياب الصلاحيات الواسعة والانتخابات الكاملة بما في ذلك انتخاب المحافظين.. وهذا المطلب الملح إذا ما رأى النور بمصداقية كاملة سيكون له أكبر الأثر في حل كثير من الإشكاليات والتأزمات والاستفادة القصوى من كل القدرات والكفاءات الوطنية، إضافة إلى ما ستخلقه من ولاء للسلطة المركزية ولخططها وبرامجها التنموية بالنظر إلى ما ستسفر عنه من شعور بأن الجميع يحقق الفوائد المرجوة من هذه السلطة وخططها. ودون أن ندفن رؤوسنا في الرمال يجب على الرئيس المنتخب أن يعترف بوجود بند هام جداً في أجندة استحقاقات المرحلة المقبلة وهو يعيه جيداً هو إشكالية ذلك الشرخ النفسي الحاد في جسد الوحدة الذي يجب أن نسميه باسمه دون مواربة (الإشكالية الجنوبية) التي يجب أن نتجاوز بها مرحلة الحديث الهامس، والإشارات الخجولة ونعطيها ما تستحق من الاهتمام والدراسة عبر مؤسسات متخصصة وبرجال يمتلكون الحكمة والمصداقية والولاء لليمن الواحد الموحد، فعلاً لاشعارات جامدة تجعل الوحدة صنماً يعبد دون وعي بماهيته وعوامل رسوخه، وعلى قاعدة أن الإشكالية لم تعد تنفع معها المهدئات الآنية ولابد من معالجة جذرية ناجعة تدفع العافية الدائمة إلى جسد الوحدة ومكوناتها. ومن بين القضايا الأكثر إلحاحاً ضمن قائمة استحقاقات المرحلة المقبلة الاعتراف بأن عسكرة الحياة المدنية لم تعد الآلية الأنسب لإدارة الحكم، وتحريك دفه التنمية، بل غدت على النقيض من ذلك عبئاً ثقيلاً على كاهل الحكم والحاكم، ومعيقاً كبيراً من معيقات التنمية.. وبالتالي لابد من التدشين الفوري لعملية تحرير الحياة المدنية من قبضة العسكرة، والفصل بين المؤسستين.. هذا الفصل الذي سيؤدي بالنتيجة إلى مؤسسة عسكرية وأمنية محترفة تؤدي رسالة محورية في الحياة العامة بعيداً عن الازدواج المخل الذي أفسد المؤسستين المدنية والعسكرية كما هو حاصل علي سبيل المثال في سلك التعليم الذي دفعتنا خشيتنا منه إلى إفساد مؤسساته ورسالته. أما القضية الأساسية في قائمة الاستحقاقات والتي تلهج بها كل الألسن بدون استثناء فهي الارتقاء بالوضع المعيشي والخدماتي لرفع كابوس المعاناة الرهيب الذي يسحق السواد الأعظم من أبناء الشعب تحت طاحونة الحرمان الشامل بسبب تردي مستوى الخدمات الأساسية، وانهيار الوضع المعيشي للغالبية العظمى من الناس نتيجة الانشغال بالصراعات الناتجة عن عدم الاستقرار السياسي وغياب حالة الوئام الوطنية الشاملة. ماسلف كان خواطر متناثرة، الغاية منها فتح باب الحديث حول أجندة استحقاقات مرحلة مقبلة يفترض أن تكون مرحلة استثنائية لو أجاد ذوي الشأن قراءتها قراءة منصفة وبآليات علمية دقيقة.