من حطَّم جدار وحدة النفوس وشيَّدَ على أنقاضه جدارَ البغضاء والكراهية ...من؟ في فترة من الزمن كانت الوحدة مغروسة في وجدان هذا الشعب الصابر، وكانت تمثل آمالاً لا حدود لها، رسمتها أحلام البسطاء والأحرار، وسالت دماء الكثير منهم في سبيل تحقيقها.. إنها بمثابة الأمل الذي يُعتقد أن تحقيقه سيكون بداية النهاية لمعاناة الإنسان في الجنوب والشمال، وبداية لمرحلة جديدة تتجه فيها الجهود لبناء الوطن والإنسان من خلال استخدام خيرات البلاد المتعددة ((ثروةً، وموقعاً، وإنساناً)) الكفيلة ببناء نهضة شاملة تعود بالخير والرفاهية والاستقرار والأمن والأمان، ويتحقق فيها إشباعُ الاحتياجات المادية والروحية لشعبنا الصابر...فماذا تحقق حتى الآن من ذلك بعد أن مضى على تحقيق الوحدة تسعة عشر عاماً ؟؟ كيف جرى خلال هذه الفترة ذلك التحوُّلُ المذهل، الجماهير الجنوبية التي كانت أكثر إلحاحاً وإصراراً على تحقيق الوحدة تخرج في مسيرات غاضبة مطالبة بفك الارتباط ؟؟ تسعة عشرة عاماً استطاعت انتزاع حب عمره عشرات السنين، بل وبناء جدار البغضاء والكراهية الذي يتطاول يوماً بعد يومٍ ليتحوَّل لدى البعض إلى استعدادٍ نفسي لحمل السلاح والقتال لفرض فكّ الارتباط ؟.. إنه تحوُّلٌ نفسيٌّ لافتٌ وجديرٌ بالدراسةِ المُتعمِّقةِ لأسبابهِ بعيداُ عن الخوف في المسبب .. نظام شمولي في الجنوب تأثر بالحركةِ القوميةِ، فاستطاع بوسائله الإعلامية من خلال توجُّههِ السياسي توجيه الجماهير باتجاه ما تعتقده حلاً لمعضلاتها، فاوصلها مؤخراً إلى الوحدة المرغوبة راضية مقتنعة بهذا النصر المحقق. ونظام شمولي في الشمال عدّ العدة منذ البداية على مختلف المستويات لفرض نفسه على الدولة بعد إعلانها ولو بالقوة العسكرية التي خطط لها، وبعد انتصاره الباهر في حرب 94م، حرب الثأر الذي تناسته القيادة في الجنوب ولم تتناساه القيادة في الشمال (( الملطوم لا ينسى)) ، هكذا وبعد انتصاره تعامل مع الجنوب أرضاً وإنساناً من باب الثأر، فالتهم ليس فقط الأرض والثروة والبنية التحتية التي كانت قائمة في الجنوب بل استطاع أيضاً التهام الأمل والطموح للمستقبل الأفضل، الذي كان ينتظره الإنسان الجنوبي من الوحدة.. ماجرى ويجري للإنسان الجنوبي من قبل النظام القائم يفسره الكثير منهم بمثابة انتقام من الجنوب؛ لهزائمه العسكرية السابقة، وعقاب جماعي على ولعهم الشديد بالوحدة المقرونة بالتخلص من النظامين السياسيين معاً،، لكن هيهات البقاء للأشطر وهكذا بدلاً من أحلام ( جنة الوحدة) فقدوا الحقوق المكتسبة التي امتلكوها في نظامهم الشمولي في الجنوب قبل الوحدة . وبسبب شدة المفاجأه بين الحلم والواقع جرى الخلط بين الوحدة والنظام القائم الذي أشرف على تحطيم الأمل للجنوبيين في جنة الوحدة. هكذا جرى التحول التدريجي للنفسية الجنوبية، بدأت مطالبها بإعادة حقوقهم المكتسبة التي فقدوها بعد الوحدة، وعند يأسهم من الحصول عليها طالبوا بفكّ الإرتباط.. إنه أمرٌ طبيعيٌّ في هذه الحالة .. فقد أدت حملة الاستنكار لطلب فكّ الارتباط إلى تغير آخر في نفسية الكثير من الجنوبيين، وهو كره كلّ ماهو قادم من الشمال، بل والاستعداد النفسي عند البعض لحمل السلاح للوصول إلى الهدف.. لقد حدث إعوجاج في التفكير؛ لكن له أسبابه.. إنه اليأس الذي أفقد العقل صواب التفكير عن طريق خلط الأوراق، فضم كل ماهو شمالي إلى النظام السياسي بدلاً من إعتبار الإنسان الشمالي جزءاً من قوة التغيير التي ينبغي أن تضاف إلى قوة التغيير الجنوبية لإجبار النظام الذي مزّق وحدة النفوس خلال فترة وجيزة على قبول التغيير .. لم يعد هناك أمل في الإبقاء على وحدة النفوس إن لم تزدحم شوارع المدن الشمالية بالمسيرات المطالبة بالتغيير، تلك المسيرات التي إن حدثت ربما يجري تغيير تدريجي في نفسية الغاضبين في الجنوب ويتأكد لهم بأن التغيير هدف مجمع عليه في الشمال كما هو في الجنوب، وذلك بالمشاركة في المسيرات الشعبية بالأفعال لا بالأقوال ... هذا إن لم تقدم القيادة السياسية ممثلة بالأخ الرئيس على التضحية بنظام الدولة القائم واستبداله بالنظام الفيدرالي.. فالإبقاء على فخر كبير بحجم الوحدة يستحق التضحية الموازية التي لا ولن تقل عن تغيير نظام الدولة القائم بعد أن ثبت فشله في قيادة دولة الوحدة .والتردد في الإقدام على ذلك نتيجة التلقائية عدم القبول به في الفترة القادمة.. فهل تدرك القيادة السياسية ثورة المعاناة الجنوبية، أم أن النار ماتحرق إلا رجل واطيها ..تذكروا أن الإنسان الطبيعي لا يمكن أن يقبل بما ينتقص حقوقه أو يحبط طموحه.