أثير مؤخرا جدلا بأن زيادة عدد السكان في اليمن احد مشاكل تدهور اقتصاد البلد، لكن هذه النظرية رفضت من قبل البعض ووصفوها ب"كلام خطير" ، ورأوا أن تزايد عددا السكان يمثل مورد بشري مهم والفشل في إدارته هو المشكلة , مشيرين إلى أنه في الوقت الحاضر لم تعد الموارد الطبيعية هي التي تحقق مستوى العيش أو الرفاهية أو التقدم.. مؤكدين في الوقت ذاته على ضرورة الاستفادة من ابداعات البشر لصنع حياة افضل ، والتي سوف تتحقق - حسب قولهم بإرادة وعزيمة الفرد نفسه في صنع مشروعه الخاص الذي ينتفع به شخصيا وينفع به وطنه ثانيا واخيرا . صحيفة السياسية الصادرة عن وكالة الانباء اليمنية سبأ سلطت الضوء على هذا الموضوع والجوانب المتصلة به من خلال استطلاع اراء اساتذه الاجتماع والاقتصاد في اليمن ، وكانت الحصيلة كمايلي:- استطلاع - غمدان الدقيمي في البداية يتحدث أستاذ علم الاجتماع بجامعة صنعاء الأستاذ الدكتور حمود العودي حول ما يشاع بأن (البشر أصبحوا عالة على الانجاز العلمي والتطور التقني في مجال التكنولوجيا) التي تتزايد كل يوم وتطغى وتؤسس لكل شيء فيقول: هذه مقولة وشائعة وفكرة خاطئة والسبب في ترسيخها أن من ينتج اليوم كل ما يدور في العالم هما أقل من 20 بالمائة بينما 80 بالمائة إما مستهلكين أو فقراء ينتظرون من يعطيهم وهذه الفكرة المغلوطة ناجمة عن إدارة عالمية مغلوطة للتقدم البشري في الوقت الراهن الذي يترابط مع بعضه البعض على امتداد الكرة الأرضية لكن الراغبين في الهيمنة والاستيلاء على نصيب الأسد من هذا الانجاز البشري علميا وتجاريا واقتصاديا هم الذين يصرون على هذا الأمر ولذلك هم الذين يشيعون فكرة الفقر والمساعدة والرعاية والصدقة والهبات وخلق المتسولين لكي يجسدوا حقهم الذي يمنحهم نصيب الأسد بصورة مباشرة أو غير مباشرة ونؤكد هنا أن ما ينتجه العلم والتكنولوجيا هو حق إنساني وبشريعة ولا يجوز لأي أحد في العالم أن يدعي أن هذا يخصه أيا كان السبب. الإبداع نموذج المشروع الخاص: ويتساءل العودي ما هو الرأي البديل لهذه الفكرة المغلوطة ؟ ويجيب مباشرة بالقول: الإنسان كرمه الله بأعظم ما كرم به أي كائن حي وهو يمتلك الطاقة العاقلة التي لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تنتقل إلى آلة أو تكنولوجيا ولذلك رحلة الإنسان وإنجازه عبر التاريخ أنتقل من استخدام أكثر من 90 بالمائة بالطاقة العضلية في مراحل ما قبل الثورة الصناعية وبالتالي لم يكن يستخدم الإبداعات والتفكير إلا في دائرة ضيقة لا تتجاوز 10 إلى 15 بالمائة وبعد الآلة البخارية التي حررت الإنسان من الطاقة العضلية المتعلقة بالحمل والجر والانتقال و أصبح يستخدم أكثر من 60 بالمائة من طاقته العاقلة في العمليات الذهنية والإبداعية وحاليا مع ثورة المعلومات وتكنولوجيا هندسة الوراثة وما بعد ذلك التي حررت الإنسان من الأعمال المتكررة حيث لم يعد يحتاج لتكرار أي معلومة أو حقيقة يريد توصيلها فبإمكانه وعبر تكنولوجيا المعلومات قولها مرة واحدة وتكون بعد ذلك في متناول العالم أجمع فإذا كان هذا العلم حرر الإنسان من الأمور البسيطة التقليدية (عضلي, ذهني متكرر و...) فهل يصبح الإنسان متشردا فيما يعرف بالبطالة والفقر والجريمة والانحراف وفقا لما يطرح بالتأكيد لا ويجب أن يعطى له أعظم وأعطى من كل هذا وذاك لأنه سيحول كل طاقته العظيمة التي منحه الله إياها إلى طاقة إبداعية خارقة بمعنى أنه سيتحول إلى مبدع بالدرجة الأولى. ويضيف: "الإبداع الذي نتحدث عنه هنا هو ما يمكن أن يمثل المشروع الخاص نموذجه الأول بمعنى أن كل فرد وكل إنسان منا أمامه فرصة ويستطيع أن يبدع ما يلبي احتياجه كإنسان ويحقق وجوده من خلال هذا الفعل وليس لمجرد أنه يأكل ويشرب وينام ولكي يحرر نفسه من وهم وخطورة ما يشاع بأنه أصبح عالة أو أننا أصبحنا طفيليين كفقراء على أغنياء العالم وإنما نتجه إلى توظيف هذه النعمة في العملية الإبداعية لكن البعض للأسف الشديد يقول أنا لا أستطيع أن أعمل وأنا محبط ولا يوجد لدي المال ولا التشجيع للقيام بمشروع خاص وغيرها وكل هذا غير مقبول خصوصا أنه كنا قبل الثورة اليمنية نعاني مشكلة الإمامة وأستطاع الناس والأحرار من خلال مشروعهم أن يغيروا ذلك الواقع ونجحوا وبالتالي يجب أن لا نحبط تحت أي سبب من الأسباب". ثاني أقوى قوة اقتصادية في العالم: ويوضح العودي أن ما يروج له البعض بأن زيادة السكان في اليمن سبب مشاكل تدهور اقتصاد البلد أو غيرها من الأقاويل بأنه كلام خطير وأنه بدلا من الاستفادة من هذا المورد البشري المهم لصنع الحياة يبدأ البعض بوضعه العائق الذي يحول بينه وبين استمرار الحياة في الوقت الحاضر وأنه من الضروري جدا حد قوله الاهتمام بالمورد البشري اليمني كونه أساس حل إشكاليات البلد خصوصا وأنه في الوقت الحاضر لم تعد الموارد الطبيعية هي التي تحقق مستوى العيش أو الرفاهية أو التقدم. ويدلل العودي على ذلك بأن أكثر بلدان العالم بمواردها البشرية هي الموارد الطبيعية هي التي تحقق مستوى العيش أو الرفاهية أو التقدم كاليابان التي لا يملك سكانها أرض ولا أرض مستوية ذات جدوى ولكنها اليوم ثاني أقوى قوة اقتصادية في العالم وذلك نظرا لاهتمامها بالإنسان والمعلومة وأستطاع الإنسان أن يوظف هذه المعلومة التوظيف الحقيقي فوصلت اليابان إلا ما وصلت إليه اليوم. الإنسان هو المتغير الرئيسي: مؤكدا أن مساحة السودان تساوي مساحة أوربا كلها ومواردها أكثر من موارد أوربا ودارفور وحدها تساوي مساحة فرنسا وأغنى بأربع مرات من موارد فرنسا ولكن لم يتم استغلال كل هذا بسبب غياب دور المورد البشري وعدم تأهيله وتمكينه من النهوض بهذا البلد وبغيره من البلدان العربية جميعها. وعاد العودي ليتساءل أين هي الدول العربية من بلد صغير مثل هولندا الذي صنعت أرضه فوق البحر ( ردم البحر) ولا تتجاوز مساحتها مساحة محافظة أب اليمنية لكنها حد قوله (هولندا) أصبحت تمول العالم ب 30بالمائة من المواد الغذائية معتبرا أن الإنسان هو المتغير الرئيسي وأن التخلف هو إنسان متخلف والتطور هو إنسان متطور بدرجة رئيسية. اليمن تشكل رقما صعبا في دورة العالم: واستطرد العودي بالقول: "اليمن ماذا يملك؟ لديه متغير رئيسي وهو الإنسان كما وليس كيفا بعد لأن الكم أيضا مهم ولديه أرض كثيرة الموارد نسبيا عبر التاريخ لو تركنا المعرفة والحرية والمبادرة تجاه النفس لاستطعنا أن نصنع ما صنعه كبار العالم بل نصنع للعالم كله دورا بارزا في التقدم والتطور فامتلاكنا للمعرفة العلمية المتعلقة بصنع الحياة وبحرية الإنسان وعدالته وديمقراطية هذا الذي سيمكن مجتمعنا من تجاوز الوضع الذي نعيشه اليوم وسيخرجنا من دائرة التخلف والتمزق والاحتقان وسننطلق إلى المستقبل". ونوه العودي بأنه في حال توفرت في اليمن الإرادة السياسية بدرجة رئيسية والنظام السياسي وصاحب القرار ثم الإصرار البشري والإنساني لكل مساحة لكي يقرر ما يفعله هو الطريق الذي يقودنا لكي نصنع المستقبل المشرق خصوصا وأن لدينا حد قوله كل الإمكانيات التي لا تتيح لنا حل مشاكلنا الداخلية فقط والاستمرار في مسيرة الثورة والوحدة والديمقراطية وإنما أيضا تلك التي تشكل رقما صعبا في دورة العالم كاملة التي تترابط مع بعضها البعض. المساعدات المالية ليست حلا: من جانبه أكد المدير التنفيذي لصندوق الرعاية الاجتماعية منصور الفياضي، أن المساعدات المالية التي يقدمها صندوق الرعاية ليست الحل الأمثل لحل مشكلة الفقر وأن على الحكومة والجهات المعنية ومنظمات المجتمع المدني الاهتمام بالمشاريع الصغيرة والخاصة وإشاعة ثقافتها بين الناس. موضحا أن الصندوق قدم بحدود 500 مليون ريال تقريبا كقروض للمستفيدين بهدف إنشاء مشاريع صغيرة وأن نسبة السداد من الفقراء بلغت بحدود 90 بالمائة بمعنى أن الفقير أكثر حرصا على تقديم سداد القرض وأن الصندوق يقدم مساعداته ل مليون و 47 ألف أسرة وأنه نفذ مؤخرا مسح بعدد الأسر الفقيرة وأستنتج أن هناك 800 ألف أسرة فقيرة بحاجة إلى مساعدة بمعني 10 مليون مواطن داخل تلك الأسر. ولم يخف الفياضي إشكالية الجهل في إدارة بعض المشاريع من قبل المستفيدين وهو ما يستدعي حد قوله الاهتمام بتدريب الأشخاص على إدارة المشاريع كونها الحلقة الأهم وأيضا التدريب على حرف متنوعة. مشيرا إلى أن الصندوق نفذ برنامج صغير في محافظة لحج يتمحور حول تسويق المواشي (الحيونات) للشباب ولمدة 20 يوما عبر معهد التدريب المهني وأنه بعد شهر من التدريب ونزول الشباب لشراء المواشي والتعرف على كيفية تسويقها قاموا بتسديد القروض وأوضحوا أنهم استفادوا كثيرا وتعرفوا على مهنة لم يكونوا على علم بها. لافتا إلى أن ما ينقصنا في اليمن هو الإرادة فقط وأن المشاكل القائمة في المحافظات الجنوبية وغيرها سببها مشكلتي البطالة والفقر وهو ما يستدعي حد قوله الاهتمام بالشباب والفقراء وإخراجهم من هذه الدوائر وجعلهم أناس منتجون يخدمون أنفسهم ومجتمعهم ووطنهم. مرتكز أساسي للاستقرار والتنمية: وفي السياق ذاته قال رئيس مركز القرن ال21 للتجديد والتنمية المهندس أحمد الأسودي أن المشروع الخاص مرتكز أساسي وهام للاستقرار والتنمية والإبداع والعطاء والنهوض وأنه بميلاده واتساع ساحته تتوالد معه تباعا المؤسسات المساعدة التي ستسهم حتما وبشكل جدي في تسريع وتفعيل المشروعات الخاصة وتنميتها. معتبرا أن الشخص بدون مشروع خاص لن يعرف المواطنة المتساوية ولا التعاطي مع قوانينها وتشريعاتها وأجوائها ومعطياتها وأنه بإشاعة ثقافة المشروع وتكريسه في جميع الأوساط والمستويات وبتمكين الفرد منه قبل انتقاله إلى طوره الحياتي الجديد كخريج جامعي أو متقاعد كمن يعمل على تجفيف منابع البطالة ومصادرها التي كما يعرف قذفت بمئات الآلاف من سنوات ماضية وما زالت حتى اليوم. وأن إشاعة ذلك وتكريسه في حس الأفراد وتمكينهم منها ليس عملا مستحيلا ولا صعبا بل من الممكنات السهلة والسريعة التنفيذ ولا تحتاج إلى سنوات طويلة ليأتي ثمارها وأن مختلف المتاحات تساعد على إنجاحها. وطالب الأسودي الجامعات والمعاهد والشركات والمؤسسات اليمنية المختلفة سواء في القطاع الخاص أم الحكومي بإشاعة وتجذير ثقافة المشروع ومساعدة المنتمين إليها في هذا الجانب وتأهيل الطالب قبل تخرجه والموظف قبل تقاعده ليتمكنوا من امتلاك مشاريعهم الخاصة إلى جانب تحويل المؤسسات التي تعنى بالتقاعد (كمؤسسة التأمينات والمعاشات) إلى بنوك تمويل لمشاريع المتقاعدين بضمان حقوقهم. مشاريع ولدت في أشد الظروف: لافتا إلى أن أصحاب المشاريع العملاقة في الواقع الإنساني ولدت في أشد الظروف وأقساها وربما واجهت معانات شديدة وحروب وأن أديسون لم يكن يتوفر لمشروعه جميع الظروف المثالية ومثل ذلك مشاريع المحرك وأووم والجبر وابن حيان. واستدرك ألأسودي في سياق حديثة إلى شرح قصص نجاح مشروعي كلا من عمر بادحدح الذي بدأ بفتح محل تجاري صغير لبيع مختلف أنواع المواد الغذائية برأس مال 15 ألف ريال وأصبح يملك ثروة كبيرة و"تاكيو" أو"ساهيرا" الذي حلم حد قوله أن يدخل التاريخ من أوسع أبوابه، قرر أن يكون عظيماً لا يعيش على الهامش، وهو أن يتعلم كيفية صناعة محرك صغير وبعد أن واجه عدة صعوبات أدرك أخيرا أنه لابد من الاعتماد على نفسه والبحث وراء عالم المحركات وحقق حلمة وأصبحت اليوم علامة "صنع في اليابان" توقيعا حضاريا نال ثقة عالمية بجدارته. أسئلة وخطوات صياغة المشروع: وقدم الأسودي عددا من الأسئلة الأساسية والتي تعتبر الإجابة عليها المحدد والمؤشر الذي يتمكن أي فرد من خلاله معرفة صلاحيته للقيام بمشروع خاص من عدمه منها: هل أنت مقتنع أن الله لم يخلقك عبثا؟ وهل أنت مستعد تحمل المخاطر وللتضحية بنمط حياتك؟ وهل تستطيع إدارة عملك الخاص من كافة الأوجه؟ وهل أنت مستعد لاتخاذ القرارات بشكل فوري دون الاسترشاد بأي دليل؟ ما هو مدى سرعتك في تنفيذ أفكارك؟ وإلى أي مدى أنت مقتنع وتملك حسن التعبير؟ وهل تملك فكرة أنت متحمس لتحقيقها من خلال مشروعك؟ موضحا أهمية تدوين خطوات صياغة المشروع ودراسة الجدوى التي تتم من خلال اختيار المشروع بدقة وعناية واسمه والمنطقة التي سيدار منها وتحديد مدى انتماء صاحبه له (وهو أهم من كل شيء) وتحديد أهدافه ومساحته والمستهدفين به ومشجعاته والقدرات والإمكانيات الذاتية والمتاحات التمويلية والمستشارين وحاجة الواقع إليه إلى جانب الدراسة التسويقية وتقدير الطلب على المنتجات والتكاليف والتقييم المالي والاقتصادي لتقدير الربحية التجارية. تشغيل 30 - 40 بالمائة من الشباب: وفي الصعيد ذاته نظم الأسبوع الماضي مركز (منارات) على مدى خمسة أيام بالتنسيق مع مركز القرن ال21 للتجديد والتنمية وصندوق الرعاية الاجتماعية "الدورة التدريبية الأولى لإعداد المدربين على بناء قدرات الشباب لامتلاك المشروعات الخاصة" لعدد30 مشاركا ومشاركة من جامعة صنعاء وعدد من الجهات. ويشرح في هذا السياق منسق الدورة التدريبية عضو مجلس أمناء (منارات) عبدالله العلفي الرؤية المتكاملة لمشروع (بناء قدرات الشباب لامتلاك المشروعات الخاصة) الذي يهدف حد قوله عبر عدة مراحل إلى تمكين 24000 شاب وشابة لاكتشاف وامتلاك واستثمار مشروعاتهم الخاصة وتدريب الشباب في أمانة العاصمة على طرق تأسيس وبناء المشروعات الخاصة وإعداد وتأهيل 250 مدربا للقيام بتدريب وتوعية الشباب وتأهيل ودعم 20 جمعية ومنظمة غير حكومية في أمانة العاصمة لتبني برامج ومشروعات تدريبية وثقافية تهدف إلى ذلك ونشر ثقافة المشروع الخاص في صفوف المجتمع. مشيرا إلى أن ذلك سيتم من خلال تنظيم 1215 دورة تدريبية وإنتاج وتطوير المواد والوسائل التدريبية الموجهة لبناء قدرات الشباب وإنتاج برامج إعلامية ثقافية متنوعة تعزز قيمة المشروع الخاص والاستثمار الحر لدى الفرد والأسرة والمجتمع وتوزيعها عبر وسائل الإعلام المختلفة وتنفيذ الدراسات والمسوح الميدانية للمشروعات الخاصة الناشئة. مؤكدا أن نتائج ذلك تكمن في تشغيل 30-40 بالمائة من الشباب المستهدفين في مشاريعهم الخاصة وتعزيز قيم وثقافة العمل فيها وتشجع استثمار طاقات الشباب في مشاريع مدرة للدخل بعيداً عن الوظيفة في القطاع العام والخاص والمساهمة في حل مشكلة البطالة في المحافظات والمناطق المستهدفة من خلال توجيه الشباب نحو العمل الحر. داخل إطار "تاكيو أو"ساهيرا" يدفع راتبه كله لشراء محرك..؟ إعداد: خولة العليوي يقول رائد المحركات الياباني (تاكيو أوساهيرا) في مذكراته: "ابتعثتني حكومتي للدراسة في جامعة هامبورغ بألمانيا لأدرس أصول الميكانيكا العلمية, ذهبت إلى هناك وأنا أحمل حلمي الخاص الذي لا ينفك عني أبداً والذي خالج روحي وعقلي وسمعي وبصري وحسي, كنت أحلم بأن أتعلم كيفية صناعة محرك صغير.." وقد كانت أوربا قد قطعت أشواطاً كبيرة في هذا المجال، قدمت لهذا الطالب الكثير من المعلومات والنظريات، لم تطلعه على أي سر من أسرار الميكانيكا العملية وعالم المحركات بكل تعقيداته، وأدرك أوساهيرا حينها أنه لابد من الاعتماد على نفسه والبحث وراء عالم المحركات هذا بالطريقة العملية لترسيخ المعلومات والتقنيات في الذهن، كان التحدي كبيراً والأمل المعزز بالإرادة أكبر، وقرر رائد المحركات الياباني أن يبدأ رحلة تحقيق الحلم، فكان أن قرأ في إحدى الصحف خبر افتتاح معرض للمحركات الإيطالية. وتصادف المعرض مع بداية الشهر، فبادر بكل راتبه لشراء محرك ، فكان أصغر محرك (ذا حصانين) تبلغ تكلفته مرتبه الشهري بالكامل، ومع ذلك غامر بكل راتبه حتى ظفر بالمحرك وذهب به إلى غرفته نظر إلى المحرك وهو الذي لا يعرف عنه إلا النظريات وقال لنفسه "هذا سر أوربا، إن استطعت أن أصنع محركاً كهذا فسأغير اتجاه اليابان". على مدى ثلاثة أيام لم يذق فيها طعم النوم، ولم يأكل إلا وجبة واحدة في اليوم قام بتفحص هذا المحرك من كل جوانبه وأتى بالكتب وبحث في الرسوم التفصيلية للمحركات، بحث وقرأ بنظرة أخرى غير تلك التي علمه إياها الأوربيون، ثم بدأ فك الجهاز قطعه قطعة بعناية وتخطيط، ووضع كل قطعة على ورقة بعد أن رسمها وأعطاها رقماً يميزها، بعد ذلك بدأ تجميع تلك القطع حتى أعاد تركيب المحرك بالكامل، وجاءت لحظة الاختبار الأكبر وهي تشغيل الجهاز، وبالفعل كان له ما أراد ودار المحرك لتدور معه الأحلام وتصبح حقيقة وحمل النبأ إلى رئيس البعثة فقال حسناً فعلت الآن لا بد لك من محرك متعطل وعليك أن تفككه وتكتشف موضع الخطأ وتصححه, واستغرقت هذه العملية عشرة أيام تعرف فيها إلى مواضع الخلل, وعمل على صنع بدائل للقطع المتآكلة بالمطرقة والمبرد. يقول أوساهيرا: "لقد كانت هذه اللحظات من أسعد لحظات حياتي فأنا مع المحرك جنباً إلى جنب ووجهاً إلى وجه لقد كنت سعيداً جداً على الرغم من المجهود الكبير الذي بذلته في إصلاح هذا المحرك.." بعد ذلك قال رئيس البعثة: عليك الآن أن تصنع قطع المحرك بنفسك ثم تركبها محركاً، ولكي يستطيع أن يكون بمستوى التحدي الذي وضعه فيه رئيس بعثته، التحق بمصانع صهر الحديد وصهر النحاس والألمونيوم بدلاً من أن يجلس ويعد رسالة الدكتوراه كما أراد أساتذته الألمان، وتحول إلى عامل يقف طائعاً إلى جانب عامل صهر المعادن، ويذكر أوساهيرا في هذا الخصوص: " كنت أطيع أوامره وكأنه سيد عظيم كنت أخدمه حتى في وقت أكله مع أنني من أسرة الساموراي.. أشرف وأعرق الأسر في اليابان لكنني كنت أخدم اليابان وفي سبيل اليابان يهون كل شيء..." وأتم أوساهيرا في هذه الدراسة والتدريبات ثماني سنوات كان يعمل خلالها مابين 10 إلى15 ساعة في اليوم، وعلم الميكادو (إمبراطور اليابان) بأمره فأرسل إليه من ماله الخاص خمسة آلاف جنيه إنجليزي اشترى بها أدوات وآلات لمصنع محركات متكامل وشحنها إلى اليابان منفقاً كل ما ادخره من أموال. وهنا يقول أوساهيرا: "عندما وصلنا إلى ناكازاكي قيل لي إن الميكادو يريد أن يراني قلت لن أستحق مقابلته إلا بعد أن أنشئ مصنع محركات كاملاً.. استغرق ذلك 9 سنوات من العمل الشاق والجهد المتواصل، وفي يوم من الأيام حملت مع مساعدي 10محركات صنعت في اليابان قطعة قطعة حملناها إلى القصر ووضعناها في قاعة خاصة بنيت بالقرب منه ثم أدرنا جميع المحركات العشر ودخل الميكادو وانحنينا نحييه فابتسم وقال: هذه أعذب موسيقى سمعتها في حياتي صوت محركات يابانية خالصة.. هكذا ملكنا الموديل وهو سر قوة الغرب نقلناه إلى اليابان نقلنا قوة أوربا إلى اليابان ثم نقلنا اليابان إلى أوربا، وبعد هذا الحدث السعيد ذهبت إلى البيت فنمت 10 ساعات متواصلة وهي أول مره أنام فيها 10 ساعات كاملة منذ 15 عاماً. واليوم أصبحت علامة "صنع في اليابان" توقيعاً حضارياً نال ثقة عالمية بجدارة.. من سيرة هذا الرجل العظيم ندرك المدى الذي يمكن لقرار صغير أن يغير فيه مجرى الأحداث ويصنع للدولة تاريخاً مجيداً، وندرك تأثير الإرادة في مواقع الأفعال. صحيفة السياسية