يبدو أن تركيا تسعى جاهدة للتناغم مع الرؤية الأمريكية لخلق شرق أوسط جديد بغية السيطرة ومحاكاة لفعل أوروبا الاستعماري بالشرق الأوسط مع بدايات القرن الماضي وفقا لمصالحها،وفي المقابل تعمل أمريكا على مناغمة أحلام تركية قديمة لخلق حكم عثماني تركي جديد وتخويلها الوصاية من جديد على العالم العربي. ومع ما يحدث في العالم العربي حاليا من انشغال دوله بقضاياها الداخلية، وعجزها عن النهوض بأدوارها الخارجية بفاعلية، يتسارع تنامي الدور التركي مع تراجع واضح للأدوار العربية. وخلال الفترة الأخيرة تصور تركيا العلمانية نفسها للعالم العربي والاسلامي على أنها تتجه باتجاه الاسلام ، متخلية عن علمانيتها، إلا أن ما يحدث في الواقع هو مجرد اللعب على وتر عواطف شعوب المنطقة لتنفيذ مشروع "الشرق الاوسط " الجديد بدعم وتخطيط أمريكي و"أضغاث احلام" تركية بعودة حكم العثمانيين . ومنذ ثورات الربيع في العام 2011 ارتفع الى مستوى غير مسبوق طموح تركيا في الشرق الاوسط بفعل تنامي قوتها الاقتصادية ودعم الغرب لسياستها الهادفة الى تنفيذ المخطط الامريكي للهيمنة على الشرق الاوسط ومحاولاته المستميتة لتقسيم العالم العربي إلى كانتونات صغيرة منهارة أي وحَدات جغرافية وحكم ذاتي واسع النطاق بلا سيادة ولا استقلال بحيث تشبه الكانتونات في هيكلها السياسي إلى حد كبير الكنفدرالية وللكانتونات حق صياغة دستور وسَن قوانين داخلية، وتخضع السلطة القضائية إلى صلاحياتها أيضا. لكن عندما نتحدث عن العالم العربي وتركيا لابد وأن تعود بنا الذاكرة مباشرة إلى الوراء أي إلى عهد الاستعماري وما جرى للدول العربية من تقسيم بعد الحرب العالمية الأولى في أوائل القرن العشرين - طبقاً لاتفاقية سايكس – بيكو التي تم بموجبها تقسيم "تركة الرجل المريض" الدولة العثمانية. وفي الاتجاه المعاكس تماما، تسعى تركيا من جديد للبحث عن موطأ قدم في العالم العربي لتستعيد ماضي انصرم دون رجعة،لكن هذه المرة على طريقة "الوجبات السريعة" الأمريكية في تحقيق احلامها بالسيطرة على العالم العربي وقيادة الشرق الاوسط وتقديمها بديلا عن الأنظمة العربية القائمة كفاعل اقليمي قوي هدفه تحقيق الاستقرار ومصالح المنطقة بالتوازن مع مصلحها وحلفاءها الولاياتالمتحدة والدول الأوروبية وإسرائيل . ومنذ عدة سنوات مارست تركيا سياسة الانفتاح على العالم العربي، وأقامت علاقات جيدة مع بعض الدول العربية، بعدما شعرت بأن دخولها إلى الاتحاد الأوروبي لن يتحقق في المدى المنظور، ولذلك حاولت إيجاد أسواق لبضائعها، وحاولت لعب دور القوة الإقليمية المهمة في المنطقة بموازاة الدور الإيراني في المنطقة، ومحاولة التأثير من خلال إيجاد قوى تعتمد عليها، لكن مع ذلك كله لم يصل مستوى العلاقات مع الدول العربية الى مستوى علاقاتها مع إسرائيل حتى في الثلاث السنوات التي اختلفتا نتيجة حادثة السفينة مرمرة لكسر حصار غزة والتي على إثر تلك الحادثة بذلت واشنطن مساعي حثيثة لإعادة المياه إلى مجراها بين الحليفين المقربين لها وتم الإعلان عن ذلك خلال زيارة الرئيس الأمريكي إلى الشرق الأوسط. ويمكن أن يلاحظ في هذا الاتجاه أن العلاقات التركية – الإسرائيلية لم تتأثر من قبل رغم ممارسات إسرائيل العدوانية واحتلال الأراضي الفلسطينية، وذلك بفعل أن المصالح التركية لا تأخذ هذا بعين الاعتبار، بل تنظر إلى مصالحها وهي أهم من هذه القضايا الثانوية بالنسبة للسياسة التركية. كما يلاحظ أن دول المنطقة الإقليمية تعمل من أجل مصالحها، بينما تقع الدول العربية فريسة لتحالفات متعددة لتنفيذ المصالح العليا لهذه الدول الهامشية المدعومة من القوى الدولية الكبرى وذلك على حساب المصالح العربية المختلفة، والتكامل والعمل العربي المشترك. وخلال الفترة الماضية مع تولي حزب العدالة والتنمية برئاسة "رجب طيب أردوغان" للحكومة ؛ وقبولها العرض الامريكي أو إعطاءها الوضوء الاخضر للقيام بدور في الشرق الاوسط شريطة إصلاح علاقاتها مع حليفتها إسرائيل، سارعت حكومة أردوغان آنذاك إلى إعلان إصلاحات واسعة على الجانب الاقتصادي والاجتماعي، ومحاولة الحدِّ من صلاحيات الجيش، وإصلاح منظومة القضاء، وتسييرها لصالح الدولة التركية. إلا أن إصلاحات "أردوغان" لم تخرج عن السمت العام للدولة من خلال ثوب العلمانية الذي اتخذته تركيا سبيلاً ومنهجًا منذ عهد كمال أتاتورك فمنذ عام 1931 شكل أتاتورك الدولة التركية على ستة مفاهيم رئيسة هي: "القومية التركية"، و"العلمانية"، و"الجمهورية"، و"الدولانية"، واستمرار التحول الثوري، والرؤية لمجتمع متجانس دون طبقية أي ما يسمى ب"الشعبية". واعتمدت حكومة أردوغان مقاربة تختلف كليا عن النظرة العربية في حل الأزمات الإقليمية إذ عملت على التدخل المباشر كرهان لحل الأزمة ،فمنذ بداية ما اصطلح عليه "ثورات الربيع العربي" التي انطلقت شرارتها الأولى في تونس ثم ليبيا، فمصر واليمن ثم سوريا،عمدت تركيا إلى التدخل المباشر في الشؤون الداخلية لهذه الدول،كما نسجت علاقات اقتصادية مع حكومة إقليم كردستان دون موافقة الحكومة المركزية العراقية. ولقد أتت هذه التدخلات التركية في الشؤون الداخلية لهذه الدول بنتائج عكسية على مصالح تركيا الاقتصادية والسياسية داخليا وإقليميا ودوليا، حيث تضررت علاقتها بشكل مباشر مع هذه الدول،وبعض الدول الخليجية، لتجني بمواقفها العدائية لهذه الدول، وللمجتمع الدولي تدهور كبير مستمر في العلاقات مع دول المنطقة واستياء دولي. وداخليا تراكم للمشاكل والقضايا، كوضع جماعات الأقلية من الأكراد والأرمن والنصارى، وتوغل واتساع نفوذ جماعات العنف والجمعيات السرية؛ التي تمثل المجتمع السفلي المظلم لتركيا والطوائف المتعددة وطائفة العَلَوِيين" الذين يمثِّلون ربع الشعب التركي تقريبًا، وأغلبهم من الأكراد؛ أي إنهم أقلية داخل أقلية بالاضافة الى كثير من القضايا العالقة.