{ في مثل هذا اليوم قبل عشر سنوات بالضبط طُويت صفحة حرب صيف 1994م بانتهاء التمرد العسكري ومحاولة الانفصال البائسة، وعاد الوطن إلى سكينته وطمأنينته واستقراره حتى أخذت تظهر لنا بين الحين والآخر محاولات أكثر بؤساً لضرب هذا الاستقرار وزعزعة أمن الناس وإقلاق معيشتهم منذ حادث خطف السياح وقتلهم في نهاية عام 1998م، وحتى قتل الأطباء الأجانب في نهاية عام 2002م .. وعند عمل كشف حساب لنتائج هذه الأعمال الإرهابية سنجد أن المتضرر منها هو المواطن العادي والفاعل الجاني .. فالمواطن المتضرر هو الذي يدفع ثمن عزوف السائح والمستثمر عن المجيء إلى اليمن خشية هذه الأعمال الإجرامية .. أما الفاعل الجاني فإنه ضحية لقيادات امتلأت قلوبها بالضغينة ونفوسها بالكراهية وعقولها بالغلو والانغلاق .. فهل يعقل هؤلاء الشباب، الذين يقدمون أنفسهم قرباناً في الزمان الخطأ وفي المكان الخطأ للقضية الخطأ؟ .. وهل يعتبر بهم من يريد السير على منوالهم؟! وإذا كان هناك من عبرة نقف أمامها اليوم بعد عشر سنوات على انتهاء الحرب وبعد أكثر من سنة على طي ملفها نهائياً، فهي أن التاريخ لا يقبل العودة إلى أزمان التخلف والتمزق إذا كانت هناك إرادة حقيقية تحمي المكاسب والمنجزات .. وفي تلك الحرب كان هناك تلاحم حقيقي بين القيادة والشعب للدفاع عن الوحدة، ولذا كانت النتيجة هي الانتصار المؤزر واستمرار عجلة التاريخ في المضي إلى الأمام. ولعل هذه العبرة غابت عن «حسين بدر الدين الحوثي»، فأشعل فتنته الصغيرة (زماناً ومكاناً) والكبيرة (معنىً وهدفاً)، ظاناً أنه صاحب قضية عادلة، معتقداً أن الجماهير ستلتف وراءه، ونسي أن هذا الشعب - وإن كان يعاني معيشياً - لن يتخلى عن جمهوريته ووحدته ونظامه السياسي الديمقراطي، ولن يقبل بالعودة إلى أزمان الاستبداد باسم النزعات الجاهلية! ولهذا فإن ما ينبغي أن يبقى من فتنة الحوثي هو العظة والعبرة لدى كل الأطراف على الساحة الوطنية .. فاليوم استيقظ الجميع على مخاطر التعليم المذهبي، ليس فقط على وحدة الأرض، بل على الوحدة الشعورية للمواطن اليمني وعلى وحدة الرؤية الثقافية والفكرية لهذا الوطن، رغم أنه «لم يظهر من الجمل إلاَّ أذنه» - كما يقول المثل الشعبي - حيث لا يزال هناك الكثير من أمثال الحوثي في الاتجاه المقابل له، فكراً ومذهباً، لم تفتح ملفاتهم بعد .. ولذا فلم يعد هناك من خيار أمام الحكومة سوى معالجة هذا الاختلال الكبير بالحكمة وتغليب المصلحة الوطنية والتنفيذ الصارم لقراراتها ولتسترشد بتجربة وضع مناهج الفقه الإسلامي أوائل السبعينيات من القرن الماضي، وكذا عملية تقنين أحكام الشرعية الإسلامية التي هي أحد مفاخر عهد الرئيس علي عبدالله صالح، وكلاهما اعتمدت على الأخذ بالدليل الأصح من أي مذهب كان .. وهذا ما ينبغي أن يتم في عصرنا الذي توفرت فيه كل العوامل المساعدة على إنجاز مثل هذه الأعمال العظيمة .. وقد نشأت أجيال كاملة على تلك المناهج لم تحس بالفرقة والتمزق الفكري والمذهبي، وصدرت أحكام في كل أنحاء اليمن بموجب تلك القوانين، فما زادت الناس إلاَّ وحدةً وتماسكاً .. فما الذي جرى حتى يحاول البعض جرّنا إلى الوراء وإلى عصور التمزق المذهبي وفتن الملل والنحل؟! من هنا سندرك ونتفهم المعاني الجليلة التي جاءت في كلمة الرئيس علي عبدالله صالح أمام العلماء يوم السبت الماضي، التي اتسمت بالشفافية والصدق والصراحة والحرص، ليس فقط على الوطن، بل وعلى الفئة التي يدعي الحوثي أنه يمثلها .. لقد أبرأ الرئيس ذمته وأقام الحجة البينة حتى لم يبق إلاَّ أن يقول : «إنه ليس من أهلكم .. إنه عمل غير صالح» .. ولهذا فإن ما ينبغي أن يقابل هذا الوضوح وتلك الصراحة وذلك الصدق، أن يكون هناك لدى أولئك العلماء الأجلاء، شيباً وشباباً، من الوضوح والصراحة والصدق ما يجعلهم يخمدون كل مسببات أي فتنة مماثلة في المستقبل، وأن يكونوا الأحرص على وحدة الأمة، بل وأن يخرج كل عالم وفقيه - أياً كان مذهبه - من ضيق المذهب إلى سعة الدين .. فالله سبحانه وتعالى لن يسأل أحداً عن مذهبه، بل سيسأله عن عمله. لقد أشار الرئيس في كلمته إلى مخاطر الاستخدام السيئ للحرية والديمقراطية، ذلك أن هذا الاستخدام السيئ سينعكس على صاحبه ولن ينعكس على التجربة نفسها .. فطالما هناك دستور وقوانين فسيكون هناك حماية للديمقراطية ممن يريدون الإساءة للوطن باسمها .. وليس الرئيس وحده الذي استغرب في كلمته انبعاث بعض المفهومات المتخلفة بعد (24) عاماً من الثورة، بل شاركه الجميع هذا الاستغراب الناتج عن تصادم تلك المفهومات البائسة مع ثوابت الإسلام ومقاصده ومع نصوص القرآن القطعية ومع العصر ومفهوماته المتطورة بشأن الديمقراطية والمساواة وحقوق الإنسان. إن مصائر مثل تلك التيارات والحركات المتطرفة معلومة ومعروفة، لكنها مثل «المطبات» على طريق طويل لا فائدة منها سوى إعاقة الخطى وعرقلة السير وإبطاء العجلة .. بمعنى أنه لا قلق على المستقبل بالمعنى الواسع، فسنن الله غلابة، إلاَّ أنه لا ينقصنا وجود من يحبط خطانا ويضع الألغام ويجعلنا نقطع المسافة المطلوبة في ضعف الزمن المطلوب .. وكلما أسرعت الحكومة في معالجة الاختلالات - أياً كانت - خففت عن نفسها وعن مواطنيها الكثير من المصاعب، وهذه من العظات والعبر التي نستحضرها في مثل هذا اليوم .. فالحزم الذي واجهت به القيادة محاولة الانفصال هو الذي عجّل بهزيمتها .. ولو أن من يحبون «البيض» يومها أخذوا على يده ومنعوه من ظلم نفسه لما حدث ما حدث .. ولو أن أحزاب المعارضة أو بعضها اتعظت من دروس وعبر ذلك اليوم لما وجدت نفسها تقع اليوم في نفس الأخطاء ونفس المراهنات ونفس الأطروحات! وقد يحاول البعض الإيهام بأن الحزم يعني القوة والعنف، وأن ضوابط الديمقراطية وأخلاقها تعني التراجع عنها، لكن الحقيقة غير ذلك بالتأكيد .. فالحزم المطلوب هو في تنفيذ القوانين وتطبيق الدستور ووقوف الناس جميعاً سواسية أمامها، وهو نفس المعنى الخاص بضوابط الديمقراطية، حيث مصالح الوطن لها الأولوية على المصالح الحزبية والشخصية، وحيث حماية الأعراض والخصوصيات من الكلمة غير المسؤولة أولى من الانفلات والصياح والنياح على حرية الصحافة .. وبدون الضوابط والقيم والأخلاق الضرورية لحماية الحريات، فإننا سنضل الطريق نحو استكمال إقامة الحكم الرشيد والمجتمع الراشد. الثورة