يضم الانتقالي وطارق صالح.. حزب الإصلاح يكشف عن تشكيل مكون سياسي جديد والهدف "القضية الجنوبية" والانقلاب الحوثي    ثلاثة صواريخ هاجمتها.. الكشف عن تفاصيل هجوم حوثي على سفينة كانت في طريقها إلى السعودية    عودة تفشي وباء الكوليرا في إب    برئاسة السعودية والنرويج.. اجتماع في الرياض لدعم جهود تنفيذ حل الدولتين والاعتراف بدولة فلسطين    رئيس مجلس القيادة: مأرب صمام أمان الجمهورية وبوابة النصر    الجرادي: التكتل الوطني الواسع سيعمل على مساندة الحكومة لاستعادة مؤسسات الدولة    حاصل على شريعة وقانون .. شاهد .. لحظة ضبط شاب متلبسا أثناء قيامه بهذا الأمر الصادم    القرءان املاء رباني لا عثماني... الفرق بين امرأة وامرأت    أصول القطاع المصرفي الاماراتي تتجاوز 4.2 تريليون درهم للمرة الأولى في تاريخها    رئيس كاك بنك يشارك في اجتماعات الحكومة والبنك المركزي والبنوك اليمنية بصندوق النقد والبنك الدوليين    فيتنام تدخل قائمة اكبر ثلاثة مصدرين للبن في العالم    استشهاد 6 من جنود قواتنا المسلحة في عمل غادر بأبين    استشهاد 23 فلسطينياً جراء قصف إسرائيلي على جنوب قطاع غزة    رباعي بايرن ميونخ جاهز لمواجهة ريال مدريد    عاجل محامون القاضية سوسن الحوثي اشجع قاضي    موعد الضربة القاضية يقترب.. وتحذير عاجل من محافظ البنك المركزي للبنوك في صنعاء    ليفربول يوقع عقود مدربه الجديد    قائمة برشلونة لمواجهة فالنسيا    لأول مرة في تاريخ مصر.. قرار غير مسبوق بسبب الديون المصرية    العميد أحمد علي ينعي الضابط الذي ''نذر روحه للدفاع عن الوطن والوحدة ضد الخارجين عن الثوابت الوطنية''    المواصفات والمقاييس ترفض مستلزمات ووسائل تعليمية مخصصة للاطفال تروج للمثلية ومنتجات والعاب آخرى    مدير شركة برودجي: أقبع خلف القضبان بسبب ملفات فساد نافذين يخشون كشفها    يونيسيف: وفاة طفل يمني كل 13 دقيقة بأمراض يمكن الوقاية منها باللقاحات    وفاة امرأة وإنقاذ أخرى بعد أن جرفتهن سيول الأمطار في إب    افتتاح قاعة الشيخ محمد بن زايد.. الامارات تطور قطاع التعليم الأكاديمي بحضرموت    الذهب يستقر مع تضاؤل توقعات خفض الفائدة الأميركية    اليمن تحقق لقب بطل العرب وتحصد 11 جائزة في البطولة العربية 15 للروبوت في الأردن    ''خيوط'' قصة النجاح المغدورة    واشنطن والسعودية قامتا بعمل مكثف بشأن التطبيع بين إسرائيل والمملكة    رغم القمع والاعتقالات.. تواصل الاحتجاجات الطلابية المناصرة لفلسطين في الولايات المتحدة    منازلة إنجليزية في مواجهة بايرن ميونخ وريال مدريد بنصف نهائي أبطال أوروبا    استهداف سفينة حاويات في البحر الأحمر ترفع علم مالطا بثلاث صواريخ    وفاة ''محمد رمضان'' بعد إصابته بجلطة مرتين    كانوا في طريقهم إلى عدن.. وفاة وإصابة ثلاثة مواطنين إثر انقلاب ''باص'' من منحدر بمحافظة لحج (الأسماء والصور)    الريال اليمني ينهار مجددًا ويقترب من أدنى مستوى    للمرة 12.. باريس بطلا للدوري الفرنسي    ريمة سَّكاب اليمن !    السعودية تعيد مراجعة مشاريعها الاقتصادية "بعيدا عن الغرور"    نداء إلى محافظ شبوة.. وثقوا الأرضية المتنازع عليها لمستشفى عتق    في ذكرى رحيل الاسطورة نبراس الصحافة والقلم "عادل الأعسم"    الأحلاف القبلية في محافظة شبوة    كيف يزيد رزقك ويطول عمرك وتختفي كل مشاكلك؟.. ب8 أعمال وآية قرآنية    طلاب جامعة حضرموت يرفعون الرايات الحمراء: ثورة على الظلم أم مجرد صرخة احتجاج؟    النضال مستمر: قيادي بالانتقالي يؤكد على مواجهة التحديات    أسئلة مثيرة في اختبارات جامعة صنعاء.. والطلاب يغادرون قاعات الامتحان    جماعة الحوثي تعلن حالة الطوارئ في جامعة إب وحينما حضر العمداء ومدراء الكليات كانت الصدمة!    الدوري الانكليزي الممتاز: مانشستر سيتي يواصل ثباته نحو اللقب    من هنا تبدأ الحكاية: البحث عن الخلافة تحت عباءة الدين    - نورا الفرح مذيعة قناة اليمن اليوم بصنعاء التي ابكت ضيوفها    قضية اليمن واحدة والوجع في الرأس    ضبط شحنة أدوية ممنوعة شرقي اليمن وإنقاذ البلاد من كارثة    دعاء يغفر الذنوب لو كانت كالجبال.. ردده الآن وافتح صفحة جديدة مع الله    القات: عدو صامت يُحصد أرواح اليمنيين!    الزنداني لم يكن حاله حال نفسه من المسجد إلى بيته، الزنداني تاريخ أسود بقهر الرجال    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    لحظة يازمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عدن.. حضن رءوم
نشر في سما يوم 24 - 07 - 2012


إهداء للروح التي فارقتني قبل موعدها.. جدتي مريم
ما زلت،، وسأعيش على الوعد،،
في الساعات الأولى من صباح آخر يوم من أيام العطلة الصيفية، تضع أمي ترتيباتها الأخيرة على ملابسنا وأغراضنا، استعدادا للسفر، وقتها أغادر بيت جدي بلهفة لألعب آخر ألعابي المحببة في الحافة(الحارة) مع أصدقائي وصديقاتي، لا أعود إلى البيت إلا عندما يأتي صوت خالتي الصغيرة(سناء) من إحدى النوافذ، تخبرني أن موعد الغداء قد حان، بسرعة أتناول ما يطفئ جوعي، وأعود للعب من جديد مع عيال حافتي، يسبق ذلك أصواتهم القادمة من الخارج "يا عاد ... هيا ما عاد بنشوفكش"، تظهر الضحكة على ملامح وجهي، بينما الحزن يملئ داخلي، فكلي يقين أنني سأحرم من متعة كهذه لفترة طويلة جدًا بمقياس الطفولة التي ولدت وترعرعت في عدن، وشاءت ظروف خاصة أن يكون الفراق، ومع موعد أذان المغرب أعود إلى البيت، لمشاهدة برامج الأطفال مع أولاد خالتي، ومن بعدها أضع رأسي على فخذ جدتي، ممدة رجليها، جالسة بأحد أركان الدارة(الصالة) ترد ظهرها إلى الجدار المتصدع، تمرر أصابع يدها بين خصلات شعر رأسي، لتحكي لي بعض مما بقي في ذاكرتها من الأمثال والقصص، التي جلبتها معها من القرية بينما ألعب بأصابع قدميها.
ليلتها، لا أنام إلا في حضن جدتي(مريم)، اسألها بصوت باكي مخنوق، راميًا راسي على صدرها الدافئ "يا جدة ما عاد بأشوفكش؟ ما عاد بأقدر أجي عدن؟"، تجيبني مريم بصوت كله ثقة يغلف مواساتها لي حتى لا تشعرني بحزنها الذي يحاكي حزني في الخفاء عني "ولا يهمك يا حبيبي، مو القيامة بكرة؟، والأيام بتمشي وما بتوقفش، وبترجع ثاني مرة لعندي، هااا حبيبي، وآني فداء"، هكذا كانت مريم العظيمة تجعلني أتحدى الأقدار، وتسخر بدورها من الزمن الذي يريد أن يفرق بيننا، الزمن الذي يجعل من عجلته تدور بإيجاب(موجب) في أوقات نريدها تكون أبطئ ما يكون، وبسلب(سالب) في أوقات نريدها أسرع ما تكون.
كل شيء في ذلك اليوم يمر سريعًا، يريد أن يُنجز في اقل من وقته الذي يستحقه وكأن الزمن في عناد معي، ندرك أنا وأخوي(منذر ورؤى) أن وقت الفراق قد حان، حين تطلب منا أمي أن نرتدي الجاكيتات والأحذية الجلدية في بلاد الحر الشديد، حتى نغادر إلى بلاد البرد القارص، ننتظر بكربة قرب الباب، فبأي لحظة قد يحضر أبي السيارة لتقلنا، نقف ثلاثتنا بصمت متكئين على بعضنا، ننظر إلى بعضنا بحزن شديد بينما يجلس أخوالي وخالاتي في وسط الدارة، يرقبونا بحذر من أن يقولوا كلمة وداع واحدة، وقتها سننفجر بالبكاء، يحركون أعينهم بعيدًا عنا خوفًا من نظرات شوق وحنين ستظل تطعننا بحب كلما تذكرناها.
ينادي أبي من الحافة أن علينا أن نسرع بالنزول وإلا ستفوتنا الرحلة إلى صنعاء، أثق تمامًا من تواطئنا بأن نتحرك ببطء، فجاءة ودون وداع أخطف حقيبة سفري وأنزل مسرعًا لأحجز مقعد قرب النافذة، فأنا بحاجة لأن أسلم على كل تفاصيل حافتي قبل الرحيل– أكذب على نفسي – كي لا أودع أهلي، بالتأمل في عيون إخوتي المحمرة - من البكاء - حين نجلس بجوار بعضنا في السيارة، أدرك كما فاتني من الأحضان والوداع والدموع، وأدرك أكثر أنني إذا ما بقيت لأودع أهلي لكانت عائلتي عادت إلى صنعاء دوني، تظهر من النافذة مريم تؤشر بيدها لتتلو أجمل آيات السلام على روحي وباكية تدعو لي، يشاركها أصدقائي بتلويحهم بأيديهم "مع السلامة يا عاد ... بترجع وبنلعب ثاني مرة"، هكذا هم عيال حافتي ودودين زيادة على اللازم، خلف زجاج نافذة السيارة أجلس مكابرًا صامتًا دون بكاء، فأنا أقوى طفل في العالم، بطل في ذلك الموقف، استرجع ذكريات أيام قليلة يتقاسمها بمعيتي بيت جدي وحافتي، فبالمكان الذي تقف فيه السيارة كنت ألعب الربالات والفتاتير والشبدلوه مع أصدقائي، وفي ذلك البيت العزيز كنت أأكل وأشرب وأنام مع أهلي.
ستلحقني أصوات الوداع حتى آخر الحافة، وأنا أتأمل جيدًا في كل تلك الوجوه والأماكن التي لن تغادرني ما حييت، فأرواحهم وتفاصيلها سترافقني، في السيارة ومن الزجاج الخلفي سأودع دكان الشحاري الذي كنت أشتري منه اللانجوس(مسحوق بنكهة فواكه مختلفة)، سأودع الركن الذي كنت أجلس فيه مع أصدقائي لنغني عصرًا، ومساءً بجوار جدي يلعب الدبنة والكوتشينة مع رفاقه العجائز، سأسلم على الحج راوح الذي كنت اشتري منه الخضروات، ومقهى الدبعي الذي كنت أشرب الشاي فيه مع أخوالي وأصدقائهم بعد صلاة العصر، ستمر السيارة بجوار دكان إيسكريم الروتي(بابا شرف-الملاي)، جوار محطة التكسيات، وستمر ببطء في ذلك الشارع الضيق الذي يجلس في أحد محلاته بائع الخمير الحالي والشبس المقلي، قبلًا سأقول وداعًا لعمر الهندي يقف خلف زجاج دكانه ليبيع السمبوسة والباجية والكاتلكس والبطاط الحُمر للأطفال والكبار.
سيرتدينا الصمت وستخرج منا التنهيدات، نتأمل بوجوه بعضنا في الطريق إلى محطة الباصات، وفي لحظة سيبكي أحد أخوي، لعله تذكر لحظة جميلة عاشها وسيفتقدها في مكان آخر، وحين يسكت سيتذكر الآخر شيئًا ما لن يجده في مكان آخر وسيبدأ بالبكاء، صحيح أننا كنا حينها صغارًا بأجسادنا كبارًا بما نملكه من مشاعر جياشة لعدن وسكانها وأهلنا وأصدقائنا ورفاقنا هناك، الذين صاروا جزءً من المدينة، ومشروع انتمائنا الرسمي ما زال معلق في علم الغيب، أما الانتماء الروحي فقد خلق في أول لقاء بعدن، مشاعر مركبة قادرة على إذابة القطبين الشمالي والجنوبي كليًا بثلوجهما المتراكمة العصية، مشاعر لا يفقهها إلا من عاش في مدينة عدن وسيفارقها فجأة دون سابق إنذار، ستتصل مريم لتطمئن على وصولنا إلى المحطة وقد فعلت ذلك مرات عديدة منذ مغادرتنا البيت نحو السفر، وستسأل عنا وعن صحتنا وحالتنا النفسية وكأننا لم نرى بعضنا منذ فترة، سيجيب أبي "نحن بخير، وصلنا المحطة وبعد قليل ننطلق عائدين إلى صنعاء".
ومع إعلان مشرف الرحلة أن التذاكر قد تم التأكد منها وتمزيقها وأن الحقائب قد تم شحنها وكلًا في مكانه ينتظر لحظة بدء رحلة فراق الروح(عدن)، سيدير السائق بمفتاحه الباص وسينطلق دون مراعاة أنه ينتزع بذلك منا آخر الأنفاس، وبطلب من بعض الركاب سيقود الباص في البداية ببطء ليس من أجل السلامة ولكن إكرامًا لعشاق يريدون أن يودعوا معشوقتهم لآخر مرة، وليلقوا آخر النظرات المفارقة، والبعض يدعي بداخله أن يتوقف الباص أو ينفذ محتوى البترول من خزانه، كل ذلك لن يفيد فقد تم تجهيز كل شيء وتفقده مسبقًا، وبعد أول نقطة أمن للتفتيش عند مخارج عدن، سينام أخوي من تعب البكاء وسينشغل أبي وأمي في حوار عن القادم وما يتنظرهم من التزامات في صنعاء، وسأبدأ أنا بالبكاء المكظوم سبع ساعات وعلى امتداد مسافة 343 كم، يصحبني في وجداني صوت عدن الشجي(أمل كعدل) في رائعتها الغنائية (النسيم المسافر).
هذه نص الرسالة التي كتبناها أنا وأخوي لأبينا (نرجوك يا نعمان، نريد أن نعيش في عدن، مستعدون أن نفعل أي شيء من أجل ذلك، وصدقنا لن نندم أبدًا على قرارنا)، وضعنها في كتابه الذي يقرأه قبل النوم، أخذ موضوع إقناع أبي لكي نستقر في عدن الكثير من الوقت والجهد الذي استنفذنا ورغم ذلك لم نيئس، وللعلم أن أبي لم يكن يومًا يرفض ذلك، ولكنها ظروف عمله وارتباطاته التي ألزمتنا البقاء بعيدين عن عدن، وبعد ضغوطات مارسناها عليه وبإجراءات خسرته الكثير، كان لنا ما أردنا، وما هي إلا سنة حتى استقرينا بشكل نهائي في عدن، ومازال أبي حتى اليوم يتذكر ويضحك من طريقة بكاءنا ويرينا الرسالة ويذكرنا كيف كان يبتزنا وهو يطلب منا أن نحصل على علامات ممتازة في المدرسة إذا كنا فعلًا نريد زيارة عدن في العطلة الصيفية، مر على ذلك سنوات، كنا قبلها في تذبذب زيارات متقطعة لعدن والإقامة فيها لبضعة أيام، صحيح أبوي أوجداني وربيت وترعرعت فيها وأولى سنين دراستي كانت في إحدى مدارسها، إلا أن الأقدار شاءت أن نفارقها لزمن ليس بكبير لنعود إليها وكلنا شوق لأن نسكنها لزمن بعيد، اسأل الرب أن يكون حتى نفنى.
ما زالت ألوان اللانجوس باقية أثرها بأطراف أصابعي، ترفض أن تغادرها مهما غسلت يدي، العقها كلما أردت تذكر طعمها الباقية أيضًا في ذاكرتي، وفي الركن الذي كنت أجلس فيه مع أصدقائي بعد صلاة العصر وتناول العواف، نؤلف أغاني تناسب أسماءنا لنرددها بعد ذلك في كل مكان وزمان لكل من يحمل ذات الاسم، أرى اليوم أطفالًا يجلسون هناك يرددون ذات الأغاني ولكن بإضافات خاصة من بنات أفكارهم، فقد غنينا لمحمد عمر "محمد عمر.. طويل النخر.. دجاجة سمينة والديك أعور.." وغنينا لصفية "صفية.. صفافة.. تكنس الحافة.. من حافة لحافة.. شلوها الكدافة.."، لتعلو تلك الجلسة ضحكات مسافرة، تملئ الفراغ بين السماء والأرض، ترسم بفرح عدن، لقد أحبت الحياة عدن، لذلك سكنتها دون تردد، وجعلتنا نسكنها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.