في مقال سابق بعنوان "عودة (المناطل) القرشي وموقف المناضل عبد العالم" كنت قد تناولت جزئية معزولة عن التاريخ تتعلق بالموقف من عودة (المناطل) عبد الرقيب القرشي المحسوب على المناضل عبد الله عبد العالم عضو مجلس القيادة سابقاً . واللغط الذي صاحب هذه العودة الآثمة بوصفها صفقة رخيصة أدارتها السلطة بوساطة سفيرها في دمشق عبد الوهاب طواف وكانت ولاتزال معروفة المقاصد ومفهومة الأغراض لسلطة تعاني من الإفلاس السياسي . ولأن بعض الانتقادات للمقال تقاطرت من هنا وهناك وربما عن غير وعي بأن المقال يكتب في لحظات تاريخية لم يعد معها الحديث عن الماضي المأساوي في مقابل الحاضر الأكثر مأساوية أمراً مجدياً بل ربما مؤثر سلبياً لشعب يريد الانعتاق من سلطة جاثمة على صدره منذ أكثر من ثلاثة عقود. فإنني أخصص هذا المقال للكتابة عن ذات الحدث ووفقاً لرؤية خاصة تجريدية تعتبر أن الإيغال في قضايا الثأر السياسي بطريقة معزولة عن المعطى الواقعي الراهن يخدم السلطة التي توغل في قتلنا وقتل شعبنا في صعدة وحرف سفيان وأرحب والجنوب ومأرب وغيرها ... ولذلك فإن اقترابنا من التاريخ يأخذ طابعاً مختلفاً لايعنى بتغيير الوقائع التي لاتزال بحاجة إلى شهادات متطابقة ومتظافرة بل يسبرها وفق ظروف الراهن فضلاً عن كون السلطة ذاتها متورطة في مقتل الشهيد الرئيس المقدم ابراهيم الحمدي الذي كان مقتله سبباً في قيام الضابط الشاب الثلاثيني الرائد عبد الله عبد العالم في نقل المعركة من صنعاء التي كان من المتوقع مقتله فيها إلى تعز وتحديداً إلى منطقة الحجرية ودخول المشائخ على خط الأزمة ومقتل بعضهم في ظروف غامضة ثمة من يرجعها إلى أن الشاب الضابط عبد الله عبد العالم عضو مجلس قيادة الثورة والرجل المقرب من الحمدي كان يعتقد بأن مقتل صاحبه حصل -وهذه حقيقة مشهودة- بتواطؤ بل بتآمر المشائخ الذين استهدفهم واستهدف سلطتهم القبلية بمشروعه النهضوي لبناء دولة نظام وقانون وقد عمدت السلطة المؤقتة الوريثة للحمدي إلى إرسال المشائخ إلى الرائد عبد العالم للتوسط ومحاولة إقناعه بالعودة عن قراره وحلحلة الأزمة في منطقة الحجرية وكان (جد) كاتب السطور الشيخ المرحوم سعد محمد صالح شيخ مشائخ المقاطرة التي تصل حدودها إلى طور الباحة بلحج ومدير عام المديرية آنذاك أحد الذين ذهبوا إلى الرائد عبد العالم وفشلت مساعيهم الوطنية التوفيقية ، ودون أن يجري قتله هو وآخرين بالرغم من أن (لسان) المناطل عبد الرقيب القرشي وتطاوله على الوسطاء حينها كان سيؤدي إلى مجزرة لولا تدارك الأمر ، ولايزال قتل البعض الآخر تشوبه الغموض الذي كان ينبغي أن يتبين بطرق قانونية بعيداً عن التكهن والمكايدات السياسية فنحن اليوم أكثر من أي وقت مضى لسنا في مقام الإدانة كما لسنا في سبيل التبرئة . يرى كثيرون أن نقل المعركة من صنعاء إلى تعز وإلى الحجرية بالذات من قبل قائد المظلات الرائد عبد العالم خطأ جسيماً لا بل إن بعضهم يعمد إلى تشبيه ذلك بمحاولة نقل الرئيس علي سالم البيض المعركة من صنعاء إلى عدن إبان أزمة 93م وحرب 94م ، وهذا فيه نوع من القفز الكبير على المعطيات التاريخية والجغرافية فصنعاء المحاطة بقبائل زيدية على أهب الاستعداد للنيل من أي سلطة مارقة لايمكن إدارة أي معركة بداخلها لمصلحة قيادة من الجنوب أو المناطق الوسطى أو شافعية على العموم مهما كان حجم التأييد لها ، ولذلك فإن الخطأ الكبير الذي تم ارتكابه في مايو 90م هو القبول بالتنازل عن العاصمة إضافة إلى منصب رئيس الجمهورية وكان حرياً التمسك بعدن عاصمة سياسية مدنية وحضارية للجمهورية اليمنية . إن الحجرية فوق أنها مسقط رأس عبد العالم فإنه لاشك أن لها عوامل تأثير في شخصيته وقرار تمرده ، فأهل الحجرية وفق رأي الوالد العلامة القاضي أحمد محمد الوزير -وهو بالمناسبة أيضاً جد لكاتب السطور - هواة حكم كابر عن كابر ، و يعتقد الوزير وهو أحد الذين هاجموا عبد العالم أن الحجريين "بطن من بطون همدان وأنهم ظلوا زيوداً حتى بدايات الألفية الثانية للهجرة" ، ويرى بأن "أوجه التقارب بين الحجريين والزيود أكثر من أوجه تقاربهم مع أبناء زبيد مع أن الأخيرة كرسي الشافعية". ويربط الوالد العلامة الوزير بين "تجاوب الحجريين وانخراطهم في حركات التحول والتطور السياسي المناهض للاستبداد بجذورهم الزيدية الساكنة في وجدانهم ومخيالهم ويرى في هواهم السياسي المتطلع دائماً إلى الحكم والسلطة ارتباطاً وجدانياً وثيقاً مع أصحاب (مطلع)" إلا أن الوزير الذي يؤكد انتماءه للحجرية يفرق بينهم وبين الزيود بقوله : "الحمد لله إننا ولدت بالحجرية ، ناسها طيبين ومتسامحين ، أصحاب مطلع يقتلك على مائة ريال وأصحاب الحجرية يأتوا إلى المحكمة ويتنازلوا بمئات الآلاف ولا هم سائلين" ويؤكد الوزير بأن الحجريين فشلوا في السيطرة على الحكم في صنعاء فنزلوا عدن ، وهناك حكموا ، وقد كان الوزير الذي نجى من الموت على يد قوات عبد العالم قد اقتيد أسيراً إلى الجنوب ليقضي في سجن لحج سنة وستة أشهر وليفرج عنه "بصفقة تبادل أسرى أبرمت بين رئيسي الشطرين حينها علي عبد الله صالح وعلي ناصر محمد وقد سلم الشطر الشمالي للجنوبي الطائرة التي أقلت منفذ عملية اغتيال الرئيس أحمد الغشمي مقابل تسليم الشطر الجنوبي للشمال العلامة أحمد محمد الوزير وأسرى اتضح فيما بعد أنهم مجانين خدعت بهم صنعاء". (انظر صحيفة القضية العدد 1 بتاريخ 11/11/2008م). وعود على بدء ، فإن أي مشروع نهضوي كذلك الذي كان يحمله الشهيد الحمدي ورفاقه كان لابد من أن يصطدم بقوى تقليدية ترفضه فما بالك لو تم استهداف تلك القوى (المشائخ) بشكل واضح وفي هذه الحالة فإن الارتكاس إلى المناطقية كان الخيار المفضل وربما الوحيد بالنسبة لعبد العالم الذي لاينتمي إلى قبيلة قوية و ثمة من يقول بأنه لم يفرق في لحظة الغضب من قتلة الحمدي بين مشائخ بلا رعية في تعز وبين مشائخ مطلع الذين يمارسون الوصاية على رعيتهم ومن ثم تحولوا إلى الجمع بين سلطة القبيلة وسلطة الدولة ذاتها بالتئام شملهم من بعد تفريق دم الحمدي فيما بينهم وبين السعودية التي لايزالون يقتاتون منها إلى اليوم فيما لا نسمع عن مشائخ من تعز والمناطق الوسطى يتسولون في الرياضوجدة بل إن بعضهم لم يقم بزيارة السعودية في حياته بالرغم من تدينه ورغبته في أداء فريضة الحج أو العمرة ، كما أن فرضية استخدام السلطة آنذاك وقائد لواء تعز الرائد علي عبد الله صالح للمشائخ كأداة للتوسط لدى ضابط يتهم السلطة القبلية بالتورط بقتل رفيقه الرئيس الحمدي بأنه أمر لايخلو من مكيدة سياسية خطيرة لاتزال واحدة من الفرضيات المحتملة إلى جانب عدد كبير من الفرضيات الأخرى وبخاصة أن رواية كثيريين لتلك الأحداث كانت على قدر كبير من التفاوت شأنها شأن الأحداث المشابهة في الشمال والجنوب. وهذا لايعني بالضرورة تكريساً للتهمة التاريخية التي تلاحق الرائد عبد العالم بالتورط بقتل مشائخ وإنما قراءة مجردة لأن مثل هذه الجرائم لاتزال مشتبهة وبحاجة إلى أطر قانونية لإثباتها وهو أمر يصعب تحقيقه في ظل معطيات تلك اللحظة التاريخية التي اتسمت بقتل الرؤساء تباعاً في الشمال والجنوب وبغياب النظام والقانون وعدم الاستقرار ، وكما لايمكن للفعل القانوني أن يتحقق في تلك الحقبة فمن باب أولى أن لايمكن أن يتحقق بعد مضي أكثر من ثلاثة عقود على تلك الأحداث مع ملاحظة أن السلطة مارست خلال هذه الفترة الطويلة القتل والحروب المتوالية وابتعدت عن أي فعل من شأنه أن يرسخ العدالة والمواطنة السوية وقوة القانون ومن هنا تحضر دوماً مسألة العفو العام الذي لانريد أن يتكرس اليوم ليصبح أداة سياسية بيد الحاكم الفرد المستبد يستخدمه وقت يشاء لأغراض سياسية ، فمن يعفو عمن أولاً ؟! ، ومن سيعفو عن هذه السلطة المتورطة في القتل الجماعي كل يوم تالياً ؟. ولذلك فإن الاتجاه ينبغي أن يكون نحو تكريس فكرة الصلح العام وليس العفو الرئاسي وهذا ما أحسن الإشارة إليه المصدر المقرب من الرائد عبد الله عبد العالم في تعليقه على عودة صهره (المناطل) عبد الرقيب القرشي الذي تؤكد مصادر متطابقة عايشت الأحداث في الحجرية ثم عايشت تجربة الرجلين في المنفى بسورية بأنه أي (المناطل) كان أحد أهم الأشخاص الفاعلين في ارتكاب أخطاء جسيمة قانونية وسياسية حسبت في النهاية وبطبيعة الحال للصهر القائد الفعلي الرائد عبد الله عبد العالم بما في ذلك صمته الطويل وعدم قيامه بفعل سياسي يستحق الذكر طيلة فترة بقائه في الخارج بالرغم من توافر شروط وعوامل موضوعية مساعدة لذلك في كثير من المراحل. إن المسألة اليوم في ظل هذه المعطيات الصعبة والمعقدة أحوج ماتكون لفعل حضاري شعبي كذلك الذي قام به الجنوبيون من خلال فعاليات التصالح والتسامح التي أكدت بالنظر إلى نتائجها والحرب التي واجهتها من قبل سلطة وصل بها الأمر إلى محاولة نبش المقابر لإثارة فتنة أحداث يناير 86م، أنها أكبر فعل هزم السلطة الفاسدة وكانت فعاليات التصالح والتسامح –بحق- منارة اهتدى إليها الجنوبيون وشقت طريقهم إلى الحراك الجنوبي الذي يعد اليوم أحد رافعات التغيير المرتقب - أياً يكن - وأحد أهم ركائزه سواء اعترفت السلطة بالقضية الجنوبية كما ينبغي لها أم استمرت في غيها وعدوانها فللباطل جولة ثم يضمحل ، ولابد أن يستجيب القدر . صفوة القول : -تجربة التصالح والتسامح الجنوبية انتصرت على سياسة الرقص على رؤوس الثعابين ولو أن تجربة مماثلة تحصل في المناطق الوسطى لشكلت انتصاراً أكبر على طريق حراك المناطق الوسطى الذي لطالما نادينا به واعتبرناه محور الارتكاز للتغيير وهذا ما تخشاه السلطة ولذلك فإنها ستفتح القبور وتنبش الفتن في سبيل إحباط أية مصالحة في خاصرة اليمن وحاضرتها ؟. - وأخيراً وليس آخراً .. انظروا معي إلى موقف الشيخ علي الشبواني والد المغدور جابر الشبواني نائب محافظ مأرب وأمين عام المجلس المحلي الذي يعتقد أنه قتل بطائرة أمريكية من دون طيار أو بطائرة حربية يمنية وربما يكون كما قال أحد المأربيين ضحية لصراع أجنحة داخل الأمن القومي وقبول الأب للتحكيم القبلي من رئيس الجمهورية القبلية والطريقة التي عولجت به القضية والمبلغ الباهض الذي تم دفعه فيها ، وانتبهوا إلى قوله بأن بينه وبين الرئيس صالح عهد بأن لا يخون أحدهما الآخر، وهذا عهد قبلي قائم بين الرئيس وكثير من المشائخ وهناك عهد آخر مواز مع شخصيات عسكرية لعل أبرزها مع أخيه الذي لم تلده أمه اللواء علي محسن الأحمر. و يضيف الشبواني قائلاً: "ولو أن الرئيس قتل إبني يعترف وأنا مسامح" ، وعلى هذا النحو وغيره تستمر سلطة صنعاء في تبرئة نفسها وتجريم الآخرين ، وتعمل على تكريس العفو الرئاسي من شخص الرئيس (صالح) وتغييب مبدأ التسامح والتصالح ، وتلهينا عن هذه الحقيقة بشتى وسائلها. فهل سنتعظ ومتى ياترى ؟!. [email protected]