[email protected] يظن بعضُهم بأن الرقابة على الإعلام وممارسة الإقصاء والحجر والمصادرة وتكميم الأفواه حكرا على وزير الإعلام وعلى مؤسسات وزارته العتيدة ، والحال أن الوسط الصحفي يغص بأمثال وزير الإعلام ، فتحرير الإعلام لا يتمثل في إلغاء وزارة الإعلام بل في إلغاء الفكرة التي تمارسها الوزارة من عقول كل من يخلع على نفسه صفة صحفي أو ناشر ، أو رئيس تحرير . فبعض هؤلاء لا يحاكم المقال أو المادة الصحفية على النص بل يحاكمها فقط بمجرد أن يقرأ اسم كاتبها ، وهم بذلك يجسدون نفس ما كتبه الشاعر عبد الكريم الرازحي بحق صديقه (اللدود) الشاعر حسن اللوزي ، وهناك الكثير مما يصعب حصره ومما هو مؤسف ومخيب للآمال في هذا الوسط الحيوي، وبالإمكان قياس الشيء ذاته على مختلف أنماط العمل الإداري ، وفي المعادلة السياسية أيضاً سنجد أن كثيراً مما يمارسه المؤتمر الشعبي العام وقياداته الحزبية تمارسه أيضاً قيادات المشترك في صفوفها ، وليس خطيراً والحال هذه أن تتسلل إلى هواجس بعضنا فكرة أن استبدال الرئيس نفسه ربما لن يغير في الأمر شيء ! .. من هنا نحن بمسيس الحاجة إلى أن تتحرر وتنعتق عقولنا قبل إعلامنا . هذه التوطئة تقودنا مباشرة إلى محاولة الإجابة عن السؤال الذي ختمت به ( ظنون ) العدد الماضي ، وهو أننا كجيل يمكن أن يُعرف ب "جيل الأزمة الأخلاقية" بحاجة إلى ثورة ثقافية لو أردنا التغيير حقيقة لا تلفيقاً ولكن هل تبدأ الثورة سياسية فتنتهي ثقافية أم العكس ؟! عالمياً ارتبط مصطلح الثورة الثقافية بكثافة بالصين الشعبية وكانت قصة مثيرة للجدل وصلت إلى حد اعتبارها حملة تطهير اجتماعي ضد خصوم ماو تسي تونغ فيما رأى فيها آخرون وهم الغالبية أمل الشعب في صنع الصين التي كانوا يحلمون بها والتي هي عليه اليوم ، اليوم الذي وصل به الحال إلى غزو الصين للعالم صناعياً ولأعتى دولة راسمألية عظمى، وتحولت أمريكا سوقاً لها فضلاً عن تفاصيل اقتصادية مثيرة لهذا البلد العجيب ، ويلمس أي زائر للولايات المتحدة عدداً وافراً من المفارقات كأن يلاحظ أن نسخة (العلم) الأمريكي الموجودة في السوق الأمريكية بوفرة تحمل عبارة (صُنع في الصين) . على مستوى العالم الإسلامي ثمة تجربة ماثلة أثبتت أن الثورة السياسية كانت نتاجاً للثورة الثقافية وهي تجربة (الثورة الخمينية ) بيد أنه لا يمكن قراءة ملامح تلك الثورة باستبعاد عنصر أساسي شكّل البيئة الملائمة للثورة الثقاقية التي ولّدت تغييراً سياسياً وهذا العنصر يتمثل في أن إيران كانت تحتوي قاعدة مدنية ضخمة وهي من إنتاج الحقبة الشاهنشاهية بالأساس ، ولم يكن العنصر الديني سوى جزء لا يتجزأ من الحقل الثقافي الوافر . في اليمن .. لا توجد حياة مدنية .. الجميع سلطة ومعارضة وحتى بعض من ينتحل صفة المجتمع المدني يحارب قيم المدنية في هذه البلاد ذات الطابع القبلي المهيمن. ووفقاً للمفاهيم التي تسود الساحة اليمنية بطريقة ممنهجة يتخندق حولها رجال الدين ، ومشائخ القبائل ، والعسكر ، والساسة ، والكتبة ، فإن التفكير في التغيير الديمقراطي ، يعني عملياً ومن حيث النتيجة دعم التمديد الاستبدادي ، وفي تقديري لم تكن انتخابات 2006م الرئاسية سوى ترجمة عملية لهذا التمديد بلواء الديمقراطية المزعومة . ولئن بات تثوير الشارع الكافر بالسلطة والمعارضة هو العمل الوحيد الذي يمكن أن يثمر تغييراً يأتي بالثورة السياسية والثقافية معاً فإن هذه القوى التي توقع الاتفاقات وتكررها خشية التغيير ستعمل على إرساء المثبطات على أنواعها كي يبقى أبطال المسرحية هم أنفسهم حتى لو لم يحضر المسرح أي من المشاهدين الأعزاء . فلا أحد من كل هؤلاء الأوصياء يجرؤ أن يقول ماقاله الثائر العالمي تشي جيفارا "أنا لست محرراً ، المحررون لا وجود لهم ، فالشعوب وحدها من يحرر نفسها" وعليه .. ولأن التغيير حاجة إنسانية فإن أي عمل يقوم على أساس إلغاء هذه الحاجة سيبقى أمراً مشبوهاً ، جيفارا كان واعياً لذلك .. كان عقلاً حراً :" لا يهمني أين ومتى سأموت بقدر ما يهمني أن يبقى الثوار يملؤون العالم ضجيجاُ كي لاينام العالم بثقله على أجساد الفقراء" . صفوة القول : الأسبوع الفائت كنا على موعد مع الذكرى ال33 لرحيل الرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي باغتيال آثم وجريمة نكراء وهو الذي تحلى بقيم المدنية في أعظم صورها ، وعمل على ترجمتها بحركة تصحيحية ترادف مصطلح ثورة ثقافية ، استجاب لها المواطنون بصورة منقطعة النظير ، وكانت القبائل أول من انخرط في مشروعه المدني مسلمةً سلاحها. ودعوني أقتبس لكم هذه العبارات من كلمة ألقتها رئيس الجمهورية توكل كرمان في جمع غفير بمناسبة ذكرى الحمدي : "لقد كان الشهيد الحمدي يعي تماما أن المجتمعات الحديثة والدول المدنية تبنى فقط في ظل ذلك الحس بالعمل التعاوني والطوعي، وبمؤسسات ولجان ومجالس شعبية تحقق التنمية الشاملة بالشراكة مع الدولة ومباركتها .. لا ككابحة ومدمرة للعمل التعاوني باعتباره عدو للسلطة وخصم للدولة كما هو حاصل الآن" . تلك كانت بحق ثورة الحمدي السياسية والثقافية والاجتماعية أيضاً .. لكنه لم يستطع أن يحصّنها من أعدائها .. فهل نمضي كما قالت الرئيس كرمان في طريق الثأر للرئيس الشهيد العظيم الحمدي بالانحياز لمشروعه ؟ .. "ذلك هو القصاص العادل الذي يجب أن يطال القتلة الذين ليس من الإنصاف أن يظلوا فارين من وجه العدالة طويلا ." وتلك هي ثورتنا السياسية والثقافية في اليمن المعاصر و"المعصور" . عن اليقين الأسبوعية