لا أدري إن كان من حسن الحظ أم من سوئه أن ينتقل المرء (من منفى إلى منفى) -على حد تعبير شاعرنا الكبير المرحوم عبد الله البردوني- ولكن لابد من التعامل مع الهجرة كأمر واقع في حياتنا بل ضرورة بالنسبة للشعبين اليمني والعربي في ظل سياسات التطفيش والتطنيش والتلطيش والتجويع والتركيع والتسكيع المتبعة في بلداننا والتي باتت منهجاً يفرز له دوريات بوليسية فكرية وأمنية وعسكرية وسياسية واجتماعية فتجعل من واحدنا مشنوقاً تمثل الهجرة له من كل هذه المشانق انعتاقاً لا يحصل إلا بقدرة قادر أو تدبير فاجر أو شعوذة ساحر ، ولست أدري أياً من هذه العمليات الثلاث قد سلكت فكان انتقالي السيريالي من المنفى اليمني أولا إلى المنفى العربي بسورية تالياً ثم المنفى الأجنبي بالولاياتالمتحدةالأمريكية. ***** لعل من نافل القول التأكيد إن مايميز المنفى الأمريكي عن غيره كثير وبما لايقاس مع سواه بالنسبة للسواد الأعظم من الناس ولكن المهم بالنسبة لي كباحث وكاتب هو أنني لست مضطراً لتغيير وتبديل عقيدتي أو قناعاتي أو حتى مواقفي المناهضة للسياسات الأمريكية حول العالم وحيال منطقتنا العربية وقضايانا المركزية على وجه الخصوص . من هنا فإن الحرية التي سأتحرك في إطارها تكتسب طابعاً نوعياً أكثر رقياً وأعلى رتبة وأوسع فضاء وهذا هو الفرق بين الحرية القانونية التي تمنحها القوانين والحرية الموهوبة التي يمنحها لك أشخاص سواء كان الشخص رئيساً أو وزيراً أو إقطاعياً ثم ما يلبث أن يسلبك إياها لمجرد أن مزاجه قد تعكر لسبب أو لآخر. كما أني لن أكون مضطراً لمحاباة النظام اليساري أو القومي أو الإسلامي أو الشيوعي أو الليبرالي لمجرد أني أعيش في كنفه بحكم الضرورة ولاشك بأني سأكون في مأمن من التقارير التلفيقية التي كان يدبجها بعض المخبرين اليمنيين المقيمين في سورية لمجرد الاختلاف معهم أو لتلبية طلب أمني من الداخل وهؤلاء باتوا معروفين للقاصي والداني ولسوف يتحسسون رؤوسهم لو قرؤوا هذه السطور وهم شماليون وجنوبيون وبعضهم يزعم أنه معارض -ولا ندري معارض لمن - وإن كان من قاسم مشترك يوحد بينهم فهو أنهم أعداء النجاح وأصدقاء عبد الوهاب طواف السفير اليمني (القبيلي) كما يحب أن يطلق على نفسه والذي جيء به من قبيلة حاشد الأكثر تخلفاً ليصبح سفيراً لليمن في أهم دولة عربية وأكثرها محورية على الإطلاق وهذا لعمري من عجائب اليمن السبع. ****** أخصص هذا المقال للحديث عن العلم الأمريكي ذلك لأني ومنذ أن وطأت قدماي أرض الولاياتالمتحدة أدهشتني صورة العلم الأمريكي الذي يرفرف في كل مكان فلا تطرق أو تمد نظرك إلى موقع صغيراً كان أم كبيراً مهماً أم أقل أهمية إلا وتجد العلم الأمريكي خفاقاً .. وجدته على هذا النحو في كل مكان حتى في كل قاطرة من قاطرات (المترو) وحتى في محلات لعب الأطفال وكان مشهده المتكرر مثيراً بالنسبة لي وأظنه لافتاً لأي قادم إلى هذه الدولة التي تتبوأ اليوم رأس الهرم بين الدول والأمم في العالم. وبالرغم من حداثة أمريكا إلا أن الأمريكان يطلقون على علم الولاياتالمتحدة اسم (المجد القديم) وأحسبهم في ذلك يتعلقون بقديم مفقود بالنسبة لأمة المهاجرين التي تتألف من مجموعات عرقية مختلفة وعديدة هاجرت إلى الولاياتالمتحدة على مر السنين وبسبب هذا التنوع يشار إلى أمريكا باسم (بوتقة الصهر) ، ويحتوي العلم الأمريكي على خمسين نجمة هي عدد الولايات كما يوجد في العلم 13 خطاً (أحمر وأبيض) يرمز إلى المستعمرات الأصلية ال13 التي شكلت النواة الأساسية لتأسيس الولاياتالمتحدة ثم انضمام بقية الولايات إليها في اتحاد فيدرالي احتفظت من خلاله كل ولاية بعلمها ليكون العلم الأمريكي هو الرمز الأعم لاتحاد هذه الولايات. أحسب أن الأمريكان بتأكيدهم على المستعمرات الثلاث عشرة في علمهم يعمقون تاريخهم الحقيقي وهم لاينكرون أبداً احتلالهم أرض الهنود الحمر السكان الأصليين لأمريكا الشمالية والذين لايتعدون ال1 % من عدد السكان اليوم لأن من الطبيعي التأكيد على الماضي عندما نستهدف الحاضر أو نستشرف المستقبل ، وفي هذا السياق كان من المفترض بالنسبة لعلمي الجمهورية العربية اليمنية وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية أن يحل اللون الرمادي محل اللون الأسود لأن نظام الإمامة ليس سواداً خالصاً ولو كان كذلك لما وجدت بعضنا يترحم على ذلك النظام (الكهنوتي!!) الذي يتلذذ بعضهم بلعنه منذ أكثر من أربعة عقود ونصف دون أن يكلف نفسه معرفة معنى الكلمة ، كما أن الاستعمار البريطاني لم يكن سواداً خالصاً بل أن معظم الجنوبيين إن لم يكن جميعهم يترحمون على ذلك الاستعمار الذي أورثهم خلال 129 عاماً نظاماً إدارياً يعد مضرب مثل في المنطقة العربية والشرق الأوسط والذي محاه نظام الفيد والرشوة والفساد في أيام معدودات .. وأكثر من ذلك فإن الاستعمار ذكر في القرآن الكريم بوصفه حالة ايجابية حيث يقول المولى عز وجل {هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها} [هود :61]. ... فيما ينعت الجنوبيون اليوم نظام صنعاء بنظام الاحتلال وهو نعت لن تجد له أية إيجابية في أي قاموس لغوي. ****** ونتساءل لماذا لم نعترف بأننا متباينون بنسبة 75 % على الأقل وبالتالي كان علينا أن نتشارك في اتحاد فيدرالي وأن نحنفظ بعلمين سابقين لدولتين تاريخهما مختلف وجاءت كل واحدة منهما على أعقاب ثورة مختلفة (ولاداعي للكلام الفارغ عن واحدية الثورة والذي يأتي بوجع البطن والرأس من حيث لاتدري) كما جاءت كل دولة وريثة لنظام مختلف وكان كل علم رمز لتاريخ مغاير ودولة مختلفة ذات طبيعة مختلفة لمجتمع مختلف سياسياً وثقافياً واقتصادياً وحتى جغرافياً وفلكلورياً أيضاً . وهذا الاختلاف لايعني بالضرورة عامل فرقة بل هو عامل تنوع وإثراء ، ومن المؤكد أن مثل هذا الاتحاد الناعم كان كفيلاً بتجنيبنا حرب 94م المشؤومة ، وبالتأكيد لن نكون على موعد اليوم مع أكبر مشهد لسقوط رمزية علم الوحدة البديل لعلمين ج.ع.ي وج.ي.د.ش ، حينما يحرق العلم ويستبدل بعلم الجنوب السابق وبعضهم يتحايل على علم الوحدة ويضيف عليه قطعة زرقاء عليها نجمة حمراء في أحد جانبيه ليتحول إلى علم الجنوب توفيراً للمال الذي تهدره صنعاء في شراء أعلام أو في حياكة أكبر علم وحدوي في العالم ربما ظناً منها بنجاعة العلاج على طريقة (وداوها بالتي كانت هي الداء). ****** لقد قامت الحرب الأهلية الأمريكية (1861-1865م) على خلفية سياسة الرق التي كانت متبعة في الولايات الجنوبية ودفعت هذه القضية وغيرها من القضايا الجنوب لأخذ قرار الانفصال عن الشمال وتشكيل دولة خاصة بهم ، ولم يكن بإمكان الشمال قبول ذلك فكانت الحرب التي كبدت الجانبين خسائر فادحة وفاز الشمال على الجنوب إلا أن الرئيس الأمريكي في تلك الحقبة ابراهام لينكولن (مات مقتولا 1865) حرر جميع العبيد الأمريكيين وبات أشهر الرؤساء الأمريكيين بعد جورج واشنطن ولا شك انه لم يفعل كمافعل نظام الفيد اليمني الذي شعر بنشوة الانتصار وترك الحبل على الغارب للمتفيدين والنهابين وقطاع الطرق يغزون الجنوب اليمني ويبصمون فيه بصمة العار التي ستظل لعنة تاريخية تلاحقنا مهما فعلنا ومهما كذبنا ومهما غامر المغامرون. وعلى ذكر الرؤساء فقد كانت لي زيارة ضرورية إلى مكتب الأمن العام بإحدى الولاياتالأمريكية لغرض استكمال إجراءات الإقامة وهناك كنت على موعد مع صورة الرئيس الأمريكي الحالي باراك أوباما ولكن ليس منفرداً ولا في صدارة المكان بل كانت صورته على الجانب الأيمن لبوابة الدخول وإلى جانبه صورة مماثلة بالحجم والشكل والترتيب لنائبه جون بايدن وكأنهما يستقبلان ويودعان المواطنين المراجعين في عملية ذكرتني بصور الرئيس علي عبد الله صالح التي باتت أكثر من الشجر في بلادنا وبنائبه عبده ربه منصور هادي الذي أأمل أن لاتكون قد صدرت توجيهات رئاسية بعدم تعليق صورة له حتى في منزله . طبعا لامجال هنا لعقد المقارنات فالرئيس في بلداننا ليس نائب الإمام المهدي المنتظر كماهو حال المرشد الأعلى في إيران بل نائب الله سبحانه وتعالى و(ركن) على طريقة اللواء الركن ، ونائب الله لا نائب له والعياذ بالله . ***** والسؤال الذي يطرح نفسه .. لماذا لانكون أوفياء لتاريخنا ولتجاربنا السابقة ولماضينا ونعترف بأن له إيجابيات كما أن له سلبيات أم أنه ديدن العرب كل العرب تارة نستحضر ماضينا المشرق ونتغنى به بل ونريد في بعض الأحيان إسقاطه على واقع اليوم وأخرى نستحضر ماضينا السيئ والمظلم ونلعنه صبح مساء.. ثم لماذا ننزه أنفسنا و لانتعلم من الأمم الأجنبية بدلاً من تسفيهها ؟! هذا جانب والجانب الآخر من السؤال وهو برسم رجال الدين عندنا إن كان للدين رجال.. لماذا يسمح لحكوماتنا محاباة الولاياتالمتحدة والتغزل بواشنطن وتمسيح أجواخ موظفي البيت الأبيض ونبارك لهم ذلك ، ويطلب منا نحن الشعوب معاداتهم وتكفيرهم وإرهابهم وإعلان الحرب عليهم ، مع أن من دفعهم لحربنا واحتلال أراضينا ليست الشعوب العربية بل الرؤساء العرب وسياساتهم الارتجالية وعدم قدرتهم على صيانة بلدانهم من أنفسهم وصبيانهم وحاشيتهم فكيف من الآخرين ؟!. وصفوة القول .. نختارها من أمريكا أيضاً تجسيداً لمبدأ التعلم من الأمم بدلاً من تسفيهها فهناك مثل أمريكي يقول : "الحياة مليئة بالمشاكل والمشاكل سوف تأتي إليك عاجلا أم آجلا سوف تأتي إليك المشاكل , فلا تذهب إليها برجليك".. ولعل للحديث بقية ...