ماكنت اتصور ان هاتفي سينقل لي تحيات رئيس عربي يشكرني على رأي تاريخي بثثته! وما كنت انتظر ذلك! أو يجري في مخيلتي أمر كذلك..! ولولا أن ماكنت استبعده قد حصل فعلا، لما صدقته أبدا...!! لم أعرف نفسي وأنا ألتقط انفاس محدثي الأستاذ القدير عبده بورجي حين اخبرني بمتابعة فخامة رئيس الجمهورية الأخ علي عبدالله صالح لحديثي المبثوث عبر برنامج قناة المستقلة اللندنية حول تاريخ اليمن، وماكدت أعرفها وهو يحدثني عن تأييده لمداخلاتي حول ذلك التاريخ، حينها امتزجت بين جوانحي وفي وقت واحد كل علامات الفرحة والدهشة. الفرحة لحديث فخامته الذي يعكس وجدانا إنسانيا، وروحا متماهية مع احداث الشارع ومتغيراته، والدهشة من اهتمامه لإيصال رأيه لي في وقت قد تشاغل فيه الكثير من الرؤساء عن تطلعات شعوبهم بقضاياهم الخاصة، ونأوا بانفسهم في مغالق ابراجهم عن هموم ومتغيرات زمانهم. إنها الحقيقة التي ماكان عليَّ ان اخفيها، ومايكون عليَّ أن احجبها عن عيون القراء والباحثين اليمنيين بوجه خاص، الذين حق لهم الافتخار بقيادتهم الحكيمة، البصيرة بأمور ماضيها وحاضرها ومستقبلها، وعن عيون الباحثين العرب بوجه عام، الذين طال بهم الأمد في انتظار تهنئة من زعيم عربي على عمل بحثي لايعبأ به الجميع، في عصر تغلبت فيه القيم المادية على القيم المعنوية، وهي في نفس الوقت رسالة واضحة اشد بها على يد فخامة الرئيس الإنسان للدلالة على أهمية مايقوم به من تفعيل للتواصل بين الحاكم والمحكوم بالشكل الذي ينسجم مع حركة بناء المجتمع المدني في اليمن. لقد تعودنا في العالم العربي ومنذ قرون طويلة بوجه عام، وفي اليمن ومنذ بدايات احقب الملكية في مطلع القرن العشرين الميلادي بوجه خاص، على ان ندور في فلك من يحكمنا، باعتباره النواة والقطب لهذا الكون، مطبقين، ودونما إرادة منَّا مقولة الملك الشمس لويس الرابع عشر «أنا الدولة والدولة أنا». ولهذا فانه من الصعوبة انتزاع هذه الفكرة من ذهن العقل الجمعي العربي الذي رسخت بين حبائله ثقافة العمل الأوحد، وتوثقت بين جنباته خصائص المجتمع الفردي الأنوي، إلا أن تتضافر من أجل ذلك الجهود المضنية من قبل المفكرين والكتاب الهادفة الى توعية المجتمع، وبث روح العمل المؤسسي بين جنابته بالصورة التي ينعكس أثرها بعد ذلك على سلوكه الاجتماعي والثقافي والسياسي. وهو ماحرصت عليه اليمن خلال حقبة ما يمكنني تسميته بالجمهورية الرابعة التي كان مبدأها بتوقيع الوحدة المباركة بين شطري اليمن، ومن ثم تفعيل النشاط المؤسسي للمجتمع المدني اليمني المتمثل في بروز العديد من الأحزاب والجمعيات ذات التوجهات المتنوعة، والآراء المتغايرة في ظل مايكفله القانون والدستور من حرية وانضباط. غير ا نه ومع ايماني بالدور الكبير الذي يقع على كاهل المثقفين في سبيل تعميق تلك الثقافة المؤسسية في وجدان الشارع العربي، إلا أن الدور الأكبر، من وجهة نظري، يعود لآلية العمل التي ينتهجها السياسي الحاكم خلال مدة حكمه، إذ أنه القادر على ان يعكس بسلوكه وفعله جوهر النظرية بكل شفافية وصدق، وهو ماحرص على تجسيده العديد من الزعماء التاريخيين الغربيين الذين قعدوا بسلوكهم نهج الديمقراطية، وثبتوا بأفعالهم خصائص المجتمع المدني المؤسسي في وجدان مجتمعاتهم افرادا وجماعات. فالحاكم السياسي البارع هو الذي يتلاحم مع هموم شعبه وآماله ورغباته بالصورة التي تجعله دائماً قريبا من مخيلة وجدان امته، وهو مانحتاج اليه في وطننا العربي الذي افتقد انسانه طوال عقود بل وقرون ماضية لشخصية الحاكم الأب.. والأخ.. والابن..، الحاكم الانسان القادر على تلمس معاني حيثيات أفعال الآخرين بغض النظر عن مدى موافقتها لتوجهه من عدمه، وهو مايمكننا أن نستشفه من خطى الرئيس علي عبدالله صالح الذي لم يألوا جهدا ليحيل رومانسية التلاحم الوجداني بين السلطة والشعب الى واقع يمكن استشعاره وادراك ابعاده المعنوية بين جنبات مجتمعنا العربي- اليمني. نعم، إنها الحقيقة التي كنت أدركها معاينة من بعيد، والتي تلمستها عن كثب في الآونة الاخيرة، ذلك انه وعلى الرغم من وعورة المسلك الديمقراطي إلا أنه قد آثر ولوجه في وقت كان الجميع من أقرانه بمنأى عن ذلك. وهو أمر ولاشك يحسب له، ويصب في خانة حسناته التاريخية. * باحث في الشؤون التاريخية عضو جمعية المؤرخين الخليجيين [email protected]