مااظهرته جنازة ياسر عرفات في رام الله هو ان الرجل كان بالفعل زعيم الشعب الفلسطيني من دون منازع وانه كانت لديه شرعية حقيقية كان يمكن ان تسمح له بتوقيع اي اتفاق مهما كان مجحفاً بحق الفلسطينيين ، ذلك ان كل فلسطيني يحب فلسطين كان مقتنعاً بأن «ابو عمار» لايمكن ان يخون . ولذلك عندما خرج «ابو عمار» من لبنان وحاول منشقون السيطرة على المخيمات الفلسطينية طردتهم النساء العجائز منها برمي الاحذية على اولئك الذين كانوا يعتقدون ان هناك ولاء فلسطينياً لشخص آخر غير ياسر عرفات . ان الولاء للرجل الكبير والوفاء لذكراه يفرضان على من يريد التحدث بصدق عن مرحلة مابعد ياسر عرفات اجراء مراجعة دقيقة للسياسات التي اتبعها الزعيم الراحل من منطلق انه كان متمسكاً منذ البداية بالقرار الفلسطيني المستقبل وان حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) انماهي تعبير عن وجود مثل هذا القرار المستقل من جهة وعن رغبة واضحة في الايكون هناك تأثير عربي على القرار الفلسطيني من جهة اخرى . ولذلك اصطدم ابو عمار بالعرب قبل ان يصطدم باسرائيل . ذلك ان حسابات فتح كانت فلسطينية اولاً واخيراً وقد رفضت الحركة في كل المراحل التي مرت فيها ان تكون تحت رحمة هذاالنظام العربي اوذلك اكثر من ذلك. ان فكرة فتح قائمة على ان مسؤولية ضياع فلسطين كانت مسؤولية عربية وان العرب باستثناء قلة منهم ، لم يدركوا في اي وقت موازين القوى الدولية والاقليمية ولم يتصرفوا انطلاقاً من هذه الموازين . لذلك كانت نكبة العام 1948 التي سبقها القرار العربي برفض قرار التقسيم . ولذلك حصلت ايضاً كارثة العام 1967 التي اكدت للفلسطينيين قبل غيرهم ان السياسات العربية ادت الى اضاعة مابقي من ارض فلسطين نظراً الى غياب القدرة على استيعاب المعادلات الاقليمية والدولية . حتى ان الرجل الصادق والوطني الذي اسمه الملك حسين كان يدرك المعنى الحقيقي للشعارات الطنانة وابعاد السقوط في فخ هذه الشعارات اضطر الى الرضوخ لشعار لاحدث يعلو فوق صوت المعركة وكانت النتيجة خسارة الضفة الغربيةوالقدس الشرقية، كي لايقال ان الجيش العربي (الاردني ) رفض خوض المعركة الى جانب مصر عبدالناصر وسوريا البعثية. كانت «فتح» منذ البداية رد فعل على السياسات العربية ، وجاءت حرب 1967 لتعزز القناعة لدى مؤسسي الحركة بأن لابديل من القرار الفلسطيني المستقل الذي قاد في النهاية الى توقيع اتفاق او سلو والى تمكين ياسر عرفات ومعه نحو ثلاثمائة الف فلسطيني من العودة الى الضفة الغربية وغزة . وهذا جعل منه الزعيم الاول في تاريخ الشعب الفلسطيني الذي يعيد لهذا الشعب ارضاً . صحيح ان اتفاق اوسلو تضمن ثغرات كثيرة ، لكن الصحيح ايضاً انه كان قبل كل شيء اعترافاً متبادلاً بين حكومة أسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية . ومثل هذه الخطوة التي تعني اعتراف حكومة اسرائيل بوجود منظمة تعبر عن طموحات الشعب الفلسطيني كان لابد ان تقود الى قيام دولة فلسطينية مستقلة شكلت حلم ياسر عرفات المغرم بالرموز . تلك الرموز التي كانت بالنسبة اليه تعبيراً عن وجود شعب يتوق الى الحرية والاستقلال وممارسة حقوقه المشروعة على ارضه التي هي جزء من ارض فلسطين التاريخية . وحده ابو عمار كان قادراً على تغطية اتفاق اوسلو الذي انتقده قسم لا بأس به من العرب المراهنين دائماً على استمرار حال اللاحرب واللاسلم اضافة بالطبع الى اليمين الاسرائيلي الذي جعل من اسقاط الاتفاق اولوية الاولويات لديه . وكانت خطوته الاولى في هذا الاتجاه اغتيال اسحق رابين في 4 نوفمبر من العام 1995 اي قبل تسع سنوات من اغتيال ابو عمار بطريقة او باخرى عبر حمله على العيش في مقره في رام الله في ظروف اقل ما يمكن ان توصف به انها مزرية . كانت تلك الظروف غير انسانية ، ولاشك ان الاسرائيليين كانوا يدركون ذلك مثلما انهم كانوا يدركون ان الرجل في حاجة الى علاج للامراض التي يعاني منها، وقد قضى ابو عمار شهيداً كما كان يرغب في ان يرحل، اذ قاوم الاحتلال حتى الساعة الاخيرة من حياته وذلك من اجل تكريس وجود القرار الفلسطيني المستقل. قاوم الاحتلال وهو على ثقة بأن شعبه لن يخذله وان قضيته كبيرة الى درجة لايمكن الا ان تنتصر يوماً . في كل مرة استند فيها ياسر عرفات الى القرار الفلسطيني المستقل ، حققت قضيته تقدماً . وفي كل مرة اضطر فيها الى مسايرة هذا النظام العربي او ذاك، تراجعت القضية . والدليل على ذلك انه عندما خرج الرجل من لبنان ، صار بالفعل زعيماً حراً واستطاع اتخاذ قرارات تاريخية كان عاجزاً على اتخاذها في بيروت. كان ابو عمار في بيروت اسيراً ، ولم يستعد حريته الا في تونس . وحتى عندما كان في تونس ارتكب خطاً جسيماً لمجرد انه قبل اقامة علاقة مميزة مع نظام صدام حسين ، وكاد ان يذهب ضحية هذا النظام عندما رفض ادانة جريمة احتلال الكويت ، وما انقذه في تلك المرحلة ان قضيته كانت كبيرة الى درجة مكنته من العبور الى مؤتمر مدريد حيث حجز لنفسه ولفلسطين مقعداً في المعادلة الشرق اوسطية الجديدة . هذا المقعد كان القاعدة التي انطلق منها للوصول الى اتفاق اوسلو الذي سمح له بالعودة الى ارض فلسطين وطرق ابواب القدس كي تفتح له حياً اوميتاً في يوم من الايام . وستفتح له عاجلاً ام آجلاً لأن احداً لم يستطع تقديم بديل من تسوية تاريخية بين اسرائيل والشعب الفلسطيني ، اذا كان مطلوباً تحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط يوماً . يصعب تخيل فلسطين من دون ابوعمار الرجل الذي لم يعرف اين ولد والذي قد لايعرف يوماً كيف مات ، ولكن من السهل القول ان مايمكن ان يعجل في تحقيق حلم الراحل الكبير التمسك بالقرار الفلسطيني المستقل من دون تجاهل العمق العربي لفلسطين والقضية الفلسطينية . وهذا يفرض اول مايفرض على القيادة الفلسطينية المجتمعة من دون ياسر عرفات الاقرار بأن عليها الخروج باجندة سياسية واضحة بعيداً عن اي نوع من الكلام الفارغ والشعارات الطنانة وفوضى السلاح التي لم تخدم سوى ارييل شارون الساعي الى تكريس الاحتلال فوق جزء مهم من الضفة الغربية . وحده القرار الفلسطيني المستقل الذي يأخذ في الاعتبار التوازنات الاقليمية والدولية يمكن ان يعيد الزخم الى القضية ويمكن ان يجعلها تتقدم مجدداً . بمثل هذا القرار ، باجندة سياسية واضحة تتولى تنفيذها قيادة تقبل اجراء نقد ذاتي في العمق لمرحلة مابعد اوسلو، يمكن الانتصار على وحش اسمه ارييل شارون استطاع عزل الفلسطينيين عن العالم عندما نجح في ايجاد قطيعة بين ياسر عرفات وواشنطن. مابعد ياسر عرفات مرحلة جديدة ، انها مرحلة تحتاج أول ما تحتاج إلى وقفة صادقة مع النفس وشجاعة كبيرة في تقويم تاريخ النضال الفلسطيني والاستفادة من ايجابيات ياسر عرفات من دون تجاهل سلبياته . هل من هو قادر على ذلك ؟