مفيد ان يكون هناك سعي الى مصالحة فلسطينية - فلسطينية، بين "فتح" و"حماس" تحديداً، نظراً الى أن الوضع السائد هذه الأيام في قطاع غزّة غير طبيعي. الوضع الفلسطيني برمته يبدو غير طبيعي... لكنّ السؤال الذي لا مفر من طرحه هو الآتي: مصالحة من أجل ماذا؟ وكيف يمكن لمثل هذه المصالحة خدمة القضية الفلسطينية؟ مصالحة من أجل ماذا؟ هل من أجل تكريس حال العقم الراهنة التي تجسدها رغبة "حماس" في رفض التعاطي مع الواقع عبر الحديث عن "هدنة طويلة" في مقابل انسحاب اسرائيل الى حدود العام 1967؟ منذ متى اسرائيل جمعية خيرية؟ لا تفيد حال العقم المعمول بها حالياً سوى اسرائيل بمشروعها الاستعماري، أي الاحتلال الاسرائيلي. ينسى من يتحدث عن هدنة طويلة، في مقابل انسحاب الى حدود الرابع من يونيو - حزيران 1967، إن الدولة اليهودية تتابع بناء "الجدار الأمني" بطول نحو سبعمائة كيلومتر والذي يتغاضى عنه العالم في ظلّ الصراعات الدائرة بين الفلسطينيين. في الواقع، يتغاضى العالم عن خطة اسرائيلية ذات طابع استعماري تستهدف فرض أمر واقع جديد على الأرض. الهدف واضح كل الوضوح ويتمثل في تكريس الاحتلال لجزء من الضفة الغربيةوالقدس الشرقية، القدس الشريف كما كان يقول "أبو عمّار"، رحمة الله عليه. هذا ما يفترض أن يستوعبه الفلسطينيون. في حال لم يستوعبوا ذلك، يخدمون من حيث يدرون أو لا يدرون المشروع الاسرائيلي. كل ما تبقى تفاصيل. مجرد تفاصيل يتلهى بها الفلسطينيون في حين تعمل اسرائيل على ضمّ الأرض تمهيداً لهضمها تدريجاً. نعم لحوار فلسطيني – فلسطيني، شرط أن يكون هناك هدف واضح له. لا فائدة من أي حوار، في غياب الرؤية المحددة. يفترض في الجانب الفلسطيني أن يحدد أخيراً ما الذي يريده. يفترض به أن يتذكر أن "أبو عمار" استطاع العودة الى ارض فلسطين وتحقيق حلمه بأن يُدفن في أرض فلسطين وأن يطرق أبواب القدس عندما أعتمد الواقعية. لم يفشل "ابو عمار" الا عندما تخلى عن الشعار الذي اطلقه في أثناء انتفاضة أطفال الحجارة التي بدأت في العام 1987م وأستمرت الى أواخر العام 1993 أي الى ما بعد توقيع أتفاق أوسلو وبدء الانسحاب الاسرائيلي من أراض فلسطينية في الضفة الغربية بموجب الاتفاق. كان شعار ياسر عرفات الذي تحول الى رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية بفضل الانتخاب الشعبي المباشر بسيط جداً في تلك المرحلة. كان "أبو عمار" يقول ان "لا وجود لشيء اسمه انتفاضة من أجل الانتفاضة". ولما كان الجالسون الى جانبه يطالبون بمزيد من الايضاحات لكلامه العام كان جوابه أن لا شيء اسمه انتفاضة من دون تحديد لأهداف سياسية قابلة للتحقيق بدل اعتماد مجرد شعارات عامة تعبّر عن أحلام وتقود الفلسطينيين من كارثة الى أخرى. في تلك المرحلة أي بين 1987 و1993م، كان ياسر عرفات صافي الذهن. كان يعرف ما الذي يمكن تحقيقه وما الذي لا يمكن تحقيقه. كان يدرك الفارق بين الممكن والمستحيل، بين الحقيقة والأحلام، بين الشعارات وأرض الواقع، بين أن يكون القرار الفلسطيني مستقلاً وبين أن يكون رهينة المتاجرين بقضية فلسطين من العرب وغير العرب. ولهذا السبب وليس لغيره، استطاع ياسر عرفات أن يكون أول زعيم في تاريخ الشعب الفلسطيني يستعيد أرضاً بدل خسارة الأرض. استطاع ذلك على الرغم من الخطأ الضخم الذي ارتكبه عند عدم وقوفه مع الكويت ومع الشعب الكويتي في معركة استعادة حريته واستقلاله وسيادته على أرضه بعد المغامرة المجنونة لصدّام حسين صيف العام 1990. غفر العالم، بما فيه الولاياتالمتحدة تلك الخطيئة بمجرد أن الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني أعتمد الواقعية. يفترض فيمن يتحدث هذه الأيام، أي بعد الأنقلاب الذي نفذّته "حماس" في غزة، عن العودة الى حوار فلسطيني – فلسطيني، استعادة مرحلة أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات من القرن الماضي، ثم التفكير ملياً في الأسباب التي مكنت الفلسطينيين من أن تكون لديهم سلطة وطنية في مرحلة ما وأن يتنقلوا داخل أجزاء من أرض فلسطين بحرية وأن تكون لديهم وزاراتهم وأجهزتهم الأمنية. استطاعوا ذلك نتيجة توقيع أتفاق أوسلو بحسناته وسيئاته والثغرات التي تضمنها. لكن فترة الراحة التي نعموا بها لم تدم طويلاً. ولم يستوعب معظم الفلسطينيين أنهم نعموا بتلك الفترة التي كان لديهم خلالها مطار في غزة لأنهم كانوا واقعيين من جهة ولأنهم كانوا يحظون بتأييد المجتمع الدولي ودعمه من جهة اخرى. لا بدّ من التذكير باستمرار أن القضية الفلسطينية لم تبدأ بالتراجع ألاّ عندما بدأت مواجهة المشروع الاستعماري الاسرائيلي بفوضى السلاح بدل اللجوء الى المقاومة المدنية ذات الطابع الحضاري التي كان يمارسها أطفال الحجارة. وسقط المشروع الوطني الفلسطيني عندما تحرك اليمين الأسرائيلي الرافض لأتفاق أوسلو. وأدى تحركه الى اغتيال اسحق رابين الذي وقع الأتفاق مع ياسر عرفات في حديقة البيت الأبيض. وسقط المشروع الوطني الفلسطيني عندما لم يدرك ياسر عرفات في ظل الضغوط التي مورست عليه أن عسكرة الانتفاضة، نتيجة فشل قمة كامب ديفيد صيف العام 2000، كان كارثة على الشعب الفلسطيني، لا لشيء سوى لأنّ اليمين الاسرائيلي كان يسعى وقتذاك بزعامة أرييل شارون الى مثل هذه العسكرة للتخلص نهائياً من عملية السلام استناداً الى قرارات الشرعية الدولية وفرض السلام على الطريقة الاسرائيلية، أي السلام الذي يكرس الاحتلال انطلاقاً من أن الضفة الغربية ليست أرضاً محتلة بل أنها أرض "متنازع عليها". لا ضرورة لأضاعة الوقت في حال لم تستعد "حماس" رشدها. وهذا بعني بطبيعة الحال أن عليها أن تقول صراحة: هل تريد خدمة المشروع الأستعماري الأسرائيلي ووضع نفسها في تصرّفه نظراً ألى أن همها الأول والأخير هو السلطة ولا شيء غير السلطة؟، أم أنها تتفهم حاجة الشعب الفلسطيني الى دولة مستقلة "قابلة للحياة" يمارس من خلالها حقوقه المشروعة بصفة كونه شعباً من شعوب المنطقة. عليها الأعلان صراحة أنها تريد دولة تعيش جنباً الى جنب دولة اسرائيل؟ بكلام أوضح هل توافق "حماس" على صيغة الدولتين على أرض فلسطين؟ متى يجيب قادة "حماس" عن مثل هذا النوع من الأسئلة، يصير في الأمكان الحديث عن مصالحة وطنية فلسطينية. عندئذ، سيكون للمصالحة معنى. لا أفق لمصالحة فلسطينية من دون برنامج سياسي واضح في استطاعة الفلسطينيين طرحه على العالم واستعادة ثقته بهم. من دون هذا البرنامج السياسي الواضح لن يذهبوا الى أي مكان باستثناء الانتقال من كارثة الى أخرى والعودة الى تلك الأيام التي كانوا يستخدمون فيها وقوداً في الصراعات الأقليمية على غرار ما يجري في لبنان حالياً. ثمة من سيقول أن المشكلة في اسرائيل وفي الاحتلال الاسرائيلي. هذا صحيح، ماذا يمكن أن نتوقع من دولة تمارس الارهاب مثل اسرائيل؟ لكن المشكلة الأخرى تكمن في كيفية مواجهة الاحتلال الاسرائيلي. هل يواجهه الفلسطينيون من دون دعم دولي؟ حتى الآن، لم يتحقق تقدم على صعيد القضية الفلسطينية من دون دعم دولي واضح. لا شيء يوفر مثل هذا الدعم الدولي سوى البرنامج السياسي الواضح. عندما توافق "حماس" على مثل هذا البرنامج، ويصير للحوار معنى.